الاستسلام بشعار المقاومة السلمية

بروفيسور عبد الستار قاسم

sattarkassem@hotmail.com

مثلما هناك موديلات وتقليعات في عالم الملابس، هناك موديلات أيضا في عالم الثورة والمقاومة. كثيرا ما تنهال النصائح على العرب والمسلمين حول أساليب ووسائل للمقاومة غير تلك التي تحمل السلاح والمتفجرات. وقد شهدت فلسطين في الثمانينيات موجة عارمة من التنظير للمقاومة السلمية كوسيلة مثلى لطرد الاحتلال، وكان بطلها أمريكي حصل على تعاون بعض الفلسطينيين من داخل فلسطين وخارجها. كتبت الجرائد وروجت الإذاعات لهذا النهج الفلسطيني الذي أسموه بالعبقري الثورية الجديدة، وأعادوا إلى الأذهان تجربة غاندي وانتصاراته المؤزرة ضد الإنكليز.

خرجت الموجة من أسوار فلسطين لتعم الوطن العربي، وتم مؤخرا عقد مؤتمر لمناقشة المقاومة السلمية في قطر. حضر المؤتمر سياسيون ورجال دين، وحضر معهم خالد مشعل زعيم حركة حماس الفلسطينية. سنرى كيف سينفذ المؤتمرون مقاومة سلمية من أجل تحرير فلسطين والعراق، ومن أجل إنهاء الضغوط على سوريا ولبنان، وحتى ذلك الحين، من المهم إبراز النقاط التالية:

أولا: لماذا لا يقاومنا الإسرائيليون والأمريكان سلميا إذا كانت المقاومة السلمية مجدية ويمكن أن تؤدي إلى تحرير الأوطان والشعوب؟ استعمل الصهاينة والإنكليز السلاح قبل عام 1948 لضرب الفلسطينيين بهدف انتزاع أرضهم وطردهم، واستعمل الاستعمار السلاح في تجزئة وتفتيت الوطن العربي. أنزل الأمريكيون قواتهم في لبنان، وقصفوا ليبيا والسودان، وضربوا القوات السورية واحتلوا العراق. أما إسرائيل فهي ترسانة أسلحة، وتصر دائما ومعها أمريكا على أن القوة هي طريق السلام، وأنه يجب ملاحقة الإرهابيين (أي نحن) وضربهم حيثما ثقفوا. لماذا كل هذه الدماء؟ ولماذا لا يتودد لنا الأمريكيون والإسرائيليون حتى نتوقف عن ملاحقتهم؟ لماذا لا يقررون استخدام المنابر الدولية فقط، وتجنيد الطاقات الأخلاقية من أجل دحرنا في ميدان المعركة؟ هذا إن كنا فعلا خصما مسلحا كما هم. لماذا يهدمون بيوتنا ويقتلون أطفالنا ويقتلعون أشجارنا ويقصفون مدننا وأعراسنا وأماكن ترفيهنا؟ طبعا الإجابة جاهزة لديهم وهي أنهم يدافعون عن أنفسهم. يأتي الأمريكي من أقاصي الغرب ليقتل طفلا في حضن أمه دفاعا عن منتجعات هاواي، ويقوم الإسرائيلي ببقر بطون الحوامل دفاعا عن حب الرب لبني إسرائيل.

ثانيا: أفهم من المقاومة السلمية أنها استعمال كل الوسائل السلمية عدا استعمال السلاح سواء كان ناريا أو غير ناري في انتزاع الحقوق. إنها وسائل قول الحق ومواجهة الحاكم الظالم أو الغازي بالكلمة، وكذلك المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية للعدو، والعصيان المدني بما في ذلك رفض حمل البطاقة الشخصية لحرمان العدو من التعرف على الأشخاص.

من التجربة بخاصة على الساحة الفلسطينية، يرفض الداعون إلى المقاومة السلمية قول الحق علنا، ويفضلون إن رأوا مناسبا الهمس به في المجالس الخاصة. إنهم يرفضون لأن كلمة الحق تأتي بغضب الحاكم أو العدو وانتقامه، وهم غير مستعدين لدفع الثمن حتى لو كان يسيرا. إنني أعرف تماما كيف يضحي أبناء فلسطين بنفوسهم وأموالهم، بينما لا يضحي دعاة المقاومة السلمية بقول كلمة تحرمهم غدا من منصب أو من السفر خارج البلاد أو من وظيفة بسيطة. ينظر الدعاة إلى المضحين بنوع من الاستخفاف والاستسخاف، إنما دون تقديم بدائل عملية لما يرون أنه جهود لا يمكن أن تهزم إسرائيل أو أن تؤثر بزعماء عرب فتثور حميتهم.

إذا كان دعاة المقاومة السلمية يبخلون بقول كلمة الحق والتحريض ضد الظالمين والغزاة، فهل يلجئون إلى ما هو أسمى درجة مثل المقاطعة الاقتصادية؟ هؤلاء حقيقة لا تعجبهم إلا البضاعة الأجنبية وبالذات البضاعة الإسرائيلية والأمريكية، ويرفضون استهلاك المنتوج المحلي إلا إذا كان البديل الاستعماري الاحتلالي غير متوفر. أما من الناحية الاجتماعية، فالتجربة تبين مدى قرب هؤلاء الدعاة من الأعداء اجتماعيا. في فلسطين، يقيم دعاة هذا الأسلوب علاقات اجتماعية مع الأعداء ويحضرون حفلات زفاف ومناسبات دينية وغير ذلك. هم فقط يظهرون على وسائل الإعلام داعين العدو إلى التعقل والاعتراف بحقوق الآخر.

المقاطعة الاقتصادية تعني أن لدى المقاطِع الاستعداد لتقليص الاستهلاك والاعتماد على المنتوج المحلي والعودة إلى حياة البساطة قليلة التكاليف، وبالطبع التخلي عن حياة البذخ والبهرجة والفخفخة. نظرت إلى مؤتمر قطر، فوجدت دعاة المقاومة السلمية يجلسون في فندق فاخر، أظن أنه الشيراتون. لو كنت مكانهم لعقدته في خيمة في الصحراء لكي أصنع لنفسي مصداقية، وبالقرب من معسكر أمريكي كإيحاء بالتحدي، ولكي أكون وفيا لما أقول. لقد فشلوا من أول خبطة.

كيف لأصحاب الفنادق أن يتحولوا إلى الخنادق؟ المقاومة السلمية الحقيقية تتطلب التضحيات. على المقاوِم الحقيقي أن يتوقع عدم القدرة على السفر من دولة إلى أخرى، وأن يكون مطلوبا لإسرائيل ولعدد من الحكومات العربية، وأن يسجن بين الحين والآخر، وأن يُطرد من الوظيفة، الخ.

ثالثا: إذا كانت المقاومة المسلحة غير مجدية، فلماذا لا يدخر الغزاة جهدا من أجل إنهائها؟ لماذا تسارع أكثر من ثلاثين دولة إلى شرم الشيخ لمناقشة 50 كيلو غرام متفجرات صنعها يحيى عياش؟ لماذا الضغوط الهائلة على دول عربية وإسلامية من أجل التعاون مع أمريكا في مواجهة المقاومين؟ لم تهتز شعرة واحدة من بني إسرائيل خوفا من دعاة المقاومة السلمية، لكن اليهود الصهاينة طفقوا يبحثون عن ملاجئ خوفا من ظنون بأن مقاوما قد تسلل. كثيرون غادروا فلسطين رعبا، ومصانع أغلقت أبوابها، وفنادق خلت من دعاة المقاومة السلمية.

المقاومة المسلحة هي مقتل إسرائيل لأنها دولة تقوم أساسا على الأمن وليس على الأخلاق الحميدة. صحيح أن المقاومة تلحق بالفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين الخسائر الجسيمة، لكن هذا هو ثمن الحرية وهو أيضا ثمن طرد العدو. وإذا أردنا لإسرائيل والأعداء أن يبقوا جاثمين على صدورنا فإن المقاومة السلمية عبارة عن وصفة ممتازة. لا مانع بالتأكيد أن نتحدث مع العالم بمختلف اللغات وبكل منطق، لكن علينا أن نعي أن غاندي لن يتكرر على الأرض العربية.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع