اسرائيل "وافقت"... هل نحتفل؟
عبدالوهاب
بدرخان الحياة 2003/05/26
اسرائيل "وافقت"، "أقرّت"، "خريطة الطريق"... هكذا نقل الخبر أمس، على أساس
انه من الأخبار الطيبة. هل وافقت فعلاً، هل أقرت حقاً، هل يجب الاحتفال
والتهليل، وهل سنسمع عن تطيير برقيات تهنئة لمجرمي الحرب على عودة الرشد
اليهم مثلما عشنا وسمعنا ان ثمة من أبرق الى رئيس الدولة العبرية "مهنئاًً"
بعيد انشاء هذه الدولة؟
اجتمعت حكومة شارون لتعلن مجرد موافقة على "الخريطة" لئلا تبدو سلبية حيال
مشروع دولي، لئلا تحرج الرئيس الاميركي. ومع ذلك فهي موافقة مسيّجة
بالشروط، ومدعمة بضمانات اميركية تلبي تلك الشروط. أي ان الطرفين، الاميركي
والاسرائيلي، اتفقا مسبقاً على ان نص "الخريطة" شيء وتطبيقها سيكون شيئاً
آخر. ليس عند واشنطن أي ضمان تقدمه للفلسطينيين سوى كلام جورج دبليو بوش،
وهو مجرد كلام يخلو من أي تعهد أو التزام أو مبدئية. الأمر مختلف مع
الاسرائيليين الذين حصلوا على ضمانات مكتوبة، وبعد حوارات معمقة مع كبار
مسؤولي الإدارة الاميركية.
لم تكن الموافقة لتمر في مجلس الوزراء الاسرائيلي أمس لو لم ترفق بقرار آخر
يرفض "حق العودة" للفلسطينيين. كان هذا أول تعديل يجريه شارون على الخريطة،
اما التعديلات والشروط الأخرى فستظهر لاحقاً وتباعاً. الجانب الفلسطيني قصر
مطالباته على هذه الموافقة على الخريطة، وربط تحرك حكومة "أبو مازن" في
المجال الأمني بهذه الموافقة، اما وقد حصلت، وعلى النحو الذي بات معروفاً،
فمن شأن هذه الحكومة ان تقدّر اذا كانت خطوة شارون كافية فعلاً لإطلاق
تحركها. وفي الوقت نفسه، اكثر الفلسطينيون من التحذير من التعديلات، فما
عساهم ان يفعلوا الآن، وقد تفاهم الاميركيون والاسرائيليون على تلغيم
"الخريطة".
الغريب في الأمر ان الموافقة الصريحة غير المشروطة على "الخريطة" جاءت من
الفلسطينيين، مع ان فيها الكثير مما يسمح لهم بالتحفظ على الأقل. الأغرب ان
نظرة الاميركيين والاسرائيليين الى "الخريطة"، كما تعكسها الصحافة العبرية،
تؤكد اتفاقهما على انها مجرد ورقة "لا تشكل بديلاً من التوراة"، وانها "لن
تصل الى التطبيق الكامل"، وبالتالي فلا داعي للخلاف عليها. الأكثر غرابة ان
الجانب الفلسطيني يتطلع الى "الخريطة" على أمل ان تشكل، ولو نظرياً،
الانجاز السياسي الذي يستحق من اجله ان توقف الانتفاضة، وأن يستقوي الأمن
الحكومي الفلسطيني على الفصائل المعارضة بصفة كونه يحمل "الثمرة" السياسية
للمقاومة.
لكن واقع الأمر يجرد هذه "الثمرة" من أي مضمون، بل على العكس استغل شارون
الضغوط لإعلان قبوله "الخريطة" ليضمن مجموعة "ثمار" لسياسته المضادة
للانتفاضة، اذ رسخ فكرة دفن "حق العودة" مقابل إقامة الدولة الفلسطينية،
على ان تتكفل المفاوضات تقزيم هذه الدولة "سيادة" وجغرافية ومقومات، كما
انه زرع لغم عدم تفكيك المستوطنات مقابل إمكان وقف النشاط الاستيطاني
الراهن أو القريب العهد.
وهكذا يسهل تصوّر كيف حصل شارون أمس على موافقة حكومته على "الخريطة"، على
رغم ان التصويت أظهر انقساماً كبيراً بين اعضائها، الى حد ان صوته هو كان
المرجح، فجاءت الموافقة بأكثرية صوت واحد. وذكرت "يديعوت احرونوت" ان وزير
الأمن شاؤول موفاز اقتنع بتأييد "الخريطة" على رغم انه يعتقد بأنها "ستموت
في نهاية الأمر بقبلة الموت". وبديهي ان الجانب الفلسطيني هو المرشح لتلقي
هذه "القبلة". ولمن لم يفهم خلفيات قرار الحكومة الاسرائيلية، فإن الكاتب
ناحوم برنياع لخص الأمر كالآتي: "غالبية وزراء الحكومة الحالية ليسوا
مستعدين لتأييد خطوة سياسية إلا إذا وعدوا بأنها لن تتحقق ابداً".
في الوقت الذي استخدمت اسرائيل كل ثقلها لدى الإدارة الاميركية، وكل
قدراتها على المراوغة لانتزاع ضمانات اميركية بأن "الخريطة" مجرد تخدير
للصراع يسمح للاميركيين بالعمل في أو ضاع مريحة في العراق، نجد في الجانب
الفلسطيني ادارة بائسة للأزمة يتساوى فيها الجديد مع القديم، والسلطة
بجناحيها كما المعارضة بفصائلها، في تعقيد أوضاع معقدة اصلاً، بل زادها
هزال الو ضع العربي عقماً وانسداداً.
ينبغي ألا يكون هناك أي اعتبار يمنع وجود توافق فلسطيني واضح على تحديد ما
هي "المصلحة الوطنية" في الوقت الراهن، وما هي المتطلبات غير القابلة
للتنازل لأي تسوية للصراع. كذلك ينبغي ان تظهر هذه "المصلحة" في صيغة أي
حكومة، وألا يسود جو التآمر والدسائس والتربص لأنه يفتك بأي مقاومة، سلمية
أو معسكرة، كما يبدد مصداقية أي حكومة وفاعليتها. فعلى رغم كل شيء، اثبتت
أحداث الشرق الأوسط حاجة الجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة واسرائيل،
الى حل للقضية الفلسطينية. ومن شأن أهل هذه القضية ألا يجهلوا الأهمية
السياسية لتلك الحاجة وألا يتهالكوا ويتهافتوا أو يقتتلوا على الاستفادة من
خدعة اسرائيلية جديدة. |