الاشتباكات
الفلسطينية مبنية في الاتفاقيات
البروفيسور عبد الستار قاسم
من
المؤسف أن تحصل اشتباكات مسلحة بين فصائل فلسطينية والسلطة، لكن كل الأسف
وعبارات الأسى والحزن لا تقف أمام الحقائق الموضوعية التي تفرض نفسها
وتتفوق في قوتها على المشاعر المتدفقة والأحاسيس المرهفة. كان تقديري وعبر
مقالاتي على صفحات الخليج أن لا مفر من اصطدامات مسلحة
فلسطينية-فلسطينية إلا إذا قرر أحد الأطراف تبني وجهة نظر الأطراف الأخرى
المتناقضة معه. وتقديري بأنه من غير المحتمل أن يُجمع الشعب الفلسطيني على
رأي شخص واحد، وأن احتمال الصدام ما يزال قائما.
وقعت
السلطة الفلسطينية اتفاقيات جوهرها أمني، وذلك على نمط الاتفاقيات التي
تعقدها إسرائيل مع العرب. تنص اتفاقية أوسلو على التعاون الأمني بين
إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ونصت رسالة عرفات إلى رابين والتي سبقت
الاتفاقيات أنه يتعهد بملاحقة الإرهاب والإرهابيين. أما اتفاقية طابا فقد
نصت صراحة بأن على السلطة الفلسطينية أن تلاحق الإرهابيين، وعليها ألا
تلاحق عملاء إسرائيل وجواسيسها. وقد ربطت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة
التقدم في عملية تسليم مزيد من الأراضي للسلطة الفلسطينية بفاعلية
الإجراءات التي تتخذها ضد الفصائل الفلسطينية المقاومة وقادتها وأفرادها.
بسبب إجراءات السلطة، منحت إسرائيل السلطة صلاحية إدارة المدن الفلسطينية
وفق اتفاقية طابا؛ وبعد أن ثبت أن السلطة حريصة على ملاحقة المقاومين وذلك
بزج مئات منهم في السجون، وسعت إسرائيل الصلاحيات لتشمل حوالي 18% من مساحة
الضفة الغربية. وبعدما نشبت انتفاضة الأقصى وأصبحت السلطة غير قادرة على
ممارسة الاعتقال والملاحقة، قررت إسرائيل اجتياح المناطق المسماة "أ" وحشرت
السلطة في مكاتب غير فاعلة.
لم تخل
السنوات الخوالي من اشتباكات. فتحت السلطة النار على المصلين في مسجد
فلسطين في مدينة غزة فقتلت 13 وأصابت 250 بجراح خلال ساعتين. أما مساعدو
الرنتيسي ففتحوا النار على قوات السلطة عندما جرت محاولة لاعتقاله.
والأمثلة على صدامات محدودة كثيرة.
الآن
تقبل السلطة الفلسطينية بخريطة الطريق.
تنص الخريطة بوضوح أن على السلطة الفلسطينية تفكيك البنى التحتية للإرهاب،
الأمر الذي يعتبر حيويا للانتقال إلى المراحل التالية في الخريطة. وإذا كان
للسلطة أن تخفق في ذلك، كما هو حاصل الآن، فإن إسرائيل تبقى متمترسة خلف
القضايا الأمنية مستمرة بضرب الفلسطينيين. هذا دون أن تنص الخريطة على
إلزام إسرائيل بوقف البناء في الجدار والاستيطان وفتح الطرق وتسريح
المعتقلين والامتناع عن العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين.
أتى أبو
مازن ولديه ظن أن إسرائيل ستعطيه مهلة للعمل لدى الفصائل لإقناعها بالتوقف
عن أعمال المقاومة، لكنه لم يحصل إلا على تهدئة من طرف واحد وهو الفصائل.
لم توقع إسرائيل على أي اتفاق يلزمها بمبادلة الطرف الفلسطيني أعمال
التهدئة، واستمرت بعملياتها كالمعتاد. وفوق ذلك، أكدت للسيد محمود عباس
مرارا إنها لا تقبل بالتهدئة، وإنها لن تكرر تجاربها مع القيادة الفلسطينية
السابقة، وإنها تطلب تفكيك البنى التحتية للإرهاب ونزع سلاح الإرهابيين.
حاول عباس لدى الولايات المتحدة من أجل تخفيف الضغط الإسرائيلي والقيام
بخطوات تجعله أقدر على خوض جدل قوي على الساحة الفلسطينية في مواجهة
المقاومين. لم تسعفه أمريكا وأسمعته ذات الكلام الذي يصدر عن قادة إسرائيل.
أمام
عباس حلان: إما أن يضرب المقاومة، أو أن يتخلى عن اتفاق أوسلو ويعيد الشعب
الفلسطيني إلى مرحلة ما قبل أوسلو. سيبقى هو تحت الضغط ما لم يضرب المقاومة
وربما لا يحصل على أموال لدفع رواتب الموظفين مما يجعله تحت ضغط شعبي
متزايد، وإذا ضرب فإنه لن يسلم من الضغط الشعبي والفصائل بما فيها بعض
أفراد فصيله. هناك من بين أجهزته الأمنية من يدفع باتجاه المواجهة المسلحة
مع الفصائل، لكن الأمر ليس سهلا بسبب قوة حماس والجهاد، وبسبب رفض العديد
من شهداء الأقصى لفكرة الحل العسكري. أما جمهور الناس فلن يكونوا راضين عن
المواجهة على الرغم من أنهم يريدون رواتبهم آخر الشهر.
على
أغلب احتمال، سيختار عباس المواجهة على الرغم من أنه سيبقى ضمن إطار الصدام
دون التطوير إلى حرب أهلية. أي سيحاول كسر إرادة الفصائل تدريجيا إن تمكن
عسكريا من القيام بذلك، علما أن الفصائل بخاصة حماس والجهاد أفضل تنظيما من
أجهزته الأمنية وأعمق انتماء وأشد رغبة في تقديم التضحيات. أما الفصائل
فستعمل جاهدة على تجنب الصدام المسلح لأن اهتمامها الأول ليس الاتفاق مع
إسرائيل وإنما مقاومة الاحتلال والاستمرار حتى نيل الحقوق الفلسطينية.
الأمر
في النهاية لا يتعلق بالنوايا الحسنة والكلمات الإعلامية الطيبة التي تصدر
عن مسؤولين وفصائل، وإنما في الأسس الموضوعية للاتفاقيات مع إسرائيل.
إسرائيل لن تقبل سلاما مع عربي لا يقبل العمل كحارس على الأمن الإسرائيلي،
ولن تقبل مقاومة تعمل في سلطان عربي منحته إسرائيل صلاحيات العمل. أي أن
الاتفاقيات تحوي في داخلها الاقتتال الداخلي الفلسطيني وتشترطه، وإذا لم
يتسنّ فإن إسرائيل لن تتوقف عن القيام بكافة أشكال العدوان ضد الشعب
الفلسطيني وفصائله المقاتلة. وإذا كان للشعب أن يتجنب الاقتتال فإن عليه
رفض الاتفاقيات بالإجماع أو الاستسلام بالإجماع.
في ضوء
هذا، لا قيمة للجدل حول من يبدأ إطلاق النار لأن المسألة ظرفية، أما فكرة
الاقتتال مبنية. الاتفاقيات مع إسرائيل تصنع التوتر الداخلي الفلسطيني ومن
ثم يزداد الاحتكاك غير الودي مما يؤدي إلى فتح النار، وإذا كان للفلسطينيين
أن يتخلصوا من التوترات المسلحة بين الفصائل فإن عليهم إلغاء الاتفاقيات،
والأفضل لهم أن يقتتلوا مع إسرائيل بدل الاقتتال فيما بينهم.
|