الانتخابات في ظل الاحتلال

البروفيسور عبد الستار قاسم

يقترب موعد الانتخابات العراقية في ظل التباين القائم في المواقف العراقية. هناك من يجادل لصالح الانتخابات، وهناك من يقف ضدها ويربط إجراءها بزوال الاحتلال. الكل يتفق على مبدأ الانتخابات، لكنهم يختلفون في الظروف الملائمة. أما الذين يؤيدون إجراءها فيستشهدون بفلسطينيي الضفة الغربية وغزة الذين أقاموا انتخابات في حين أن الاحتلال الصهيوني يجثم على صدورهم. لكن الذين يرفضون إجراءها في هذا الوقت فيرون أن الفلسطينيين وقعوا في خطأ لأن الأولوية للتحرير.

من الناحية القانونية، الانتخابات في ظل الاحتلال عبارة عن خطأ كبير من شأنه أن يضفي شرعية على الاحتلال. القبول بالانتخابات تحت حراب المحتل وحمايته ورعايته وتنظيمه عبارة عن اعتراف صريح وواضح بحق القوة المحتلة في ترتيب الأوضاع الداخلية للواقعين تحت الاحتلال، وهذا يعني الاعتراف بالاحتلال. مرجعية هذه الانتخابات هي الاحتلال، والقانون الذي ينظمها هو قانون الاحتلال (أو الذي وضع بإشرافه) والإجراءات هي التي يوافق عليها الاحتلال، والنتائج هي التي يصادق عليها الاحتلال أو موظفوه والمأتمرون بأمره.

من شأن الانتخابات في ظل الاحتلال أن تحسن صورة الدولة المحتلة أمام شعبها وأمام العالم. في هذا العصر، تخجل دول كثيرة من ممارسة الاحتلال، وتحاول الدولة التي تقدم على هذه الممارسة أن تثبت للعالم أنها تسعى لخير الذين احتلتهم وليس إلى اضطهادهم أو استغلالهم وقهرهم. حاول الكيان الصهيوني عبر سنوات أن يحسن صورته على الساحة الدولية من خلال إجراءات متنوعة في الضفة الغربية وغزة من شأنها خدمة الشعب الفلسطيني في حياتهم اليومية. فمثلا، أقام جهاز صحة جيد حال دون تفشي أمراض معدية، وحاول إنعاش الاقتصاد بطرق مختلفة عندما كانت تتدهور الأوضاع الاقتصادية بصورة حادة. وكان يعطي بعض الأعمال الحياتية اليومية بعدا إعلاميا واسعا من أجل التأثير على الرأي العام المحلي والعالمي. ينطبق هذا على الولايات المتحدة التي تحاول أن تثبت للعالم أنها احتلت العراق من أجل أهل العراق الذين ينشدون الحرية والديمقراطية. الانتخابات هي إحدى وسائلها في تسويق أقوالها وجعلها قوة احتلال فاضلة تعمل لمصلحة الذين دعوها لاحتلالهم.

على الصعيد الفلسطيني، حصل خطأ جسيم عام 1972 عندما وافق الفلسطينيون على إجراء الانتخابات المحلية. حاولت إسرائيل مع بداية الاحتلال عام 1967 أن تقيم انتخابات محلية لتثبت للعالم أنها لم تحتل لتقمع الناس أو تذلهم وإنما لأسباب استراتيجية أمنية تهم مصالحها هي، وأنها بالفعل تريد من الجمهور الفلسطيني أن يدير شؤونه اليومية بنفسه. أرادت إسرائيل أن تتخلص من صورة الدولة المحتلة على الصعيد العالمي خاصة لأنها اكتسبت تعاطفا بسبب الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في أوروبا. كان الفلسطينيون على وعي بهذه المسألة مع بداية الاحتلال ورفضوا قبول فكرة الانتخابات.

غيرت بعض القيادات الفلسطينية في الداخل والخارج مواقفها عام 1972، وقبلت بفكرة الانتخابات المحلية بحجة أن مصالح الناس تتطلب ذلك. جرت الانتخابات ثانية عام 1976. وقبل الفلسطينيون انتخابات للغرف التجارية والصناعية أيضا في التسعينيات وتحت حراب العدو وبتشجيع من منظمة التحرير الفلسطينية. بالرغم من هذه الانتخابات، لم يتمكن الفلسطينيون من إدارة شؤونهم بالطريقة التي يريدونها، وبقوا مقيدين بالأوامر العسكرية الصهيونية وبرغبات الاحتلال السياسية والأمنية. تمت محاولات فلسطينية للتمرد على إرادة الاحتلال، لكن الحكم العسكري قرر التخلص من المجالس المحلية المنتخبة عندما رأى أن ذلك يحقق مصلحته.

كان من المفروض، وحسب تجارب الشعوب التي وقعت تحت الاحتلال، أن يتم تشكيل لجان شعبية مختصة ومهنية لإدارة شؤون الناس اليومية في مختلف المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والتعليمية. هنا فشل الفلسطينيون ولم يقدروا على القيام بالمهمة لسببين: كانت التجربة الفلسطينية غير ناضجة بعد، ولم تكن منظمة التحرير الفلسطينية معنية بالأمر. نشطت فصائل منظمة التحرير في استقطاب المؤيدين وفي تسييس الحياة اليومية دون أن تكترث بالبعد الوطني أو المهني. اعتمد الفلسطينيون على الاحتلال في إدارة شؤونهم اليومية مما سبب الإرباك ومن ثم القبول بالانتخابات.

هذا الخطأ الفلسطيني تكرر مع اتفاقيات أوسلو التي لم تلغ الاحتلال وأتت بانتخابات سياسية. تم إجراء انتخابات أفرزت قيادة أصبحت تمثل الشعب الفلسطيني على المستوى العالمي وترسم السياسة الداخلية في مختلف المجالات. سواء كانت الانتخابات مقبولة أو غير مقبولة، أصبحت نتائجها مفروضة على الجميع. أصبح الفلسطيني أمام أمرين: إما أن يبقى على الرصيف متفرجا أو لاعنا دون أن يقدر على التغيير، أو أن يخوض معركة الانتخابات عساه يغير الأمور بالطريقة التي يراها مناسبة. الخطأ أصبح واقعا لا مفر من التعامل معه لعلاجه.

تغذت الانتخابات على فكرة التحرير وخففت كثيرا من وطأة التعبئة ضد الاحتلال. فلسطين لم تتحرر ولم يحصل الفلسطينيون على أي من حقوقهم، وفي النهاية الكيان الصهيوني هو المستفيد. من المهم أن يكون في هذا عبرة لأهل العراق. يرتكب شعبنا العربي في العراق خطأ فادحا إن أجروا الانتخابات قبل طرد الأمريكيين لأن في ذلك إطالة لعمر الاحتلال. أمل أمريكا الآن في الانتخابات لكي تكون قادرة على مواجهة العالم الذي ينتقده ليل نهار. كذبت أمريكا في كل ما قالته تبريرا لحربها، ولم يبق أمامها الآن إلا بوابة الديمقراطية لتثبت لشعبها وللعالم بعض الصدقية.

التحرير صبر ساعة، ومبررات التهدئة والسكينة تجعل الصبر مرا والساعة سنينا. كان بإمكان الفلسطينيين أن يركزوا على التعبئة من أجل طرد الاحتلال، لكنهم وقعوا في أخطاء أطالت عمر الاحتلال لعشرات السنين. معركة التحرير بالتأكيد لها أولوية على معارك الانتخابات، والنصر يقينا يأتي بالحرية التي لا مفر منها لإقامة ديمقراطية حقيقية. وحتى يتم التحرير، من المفروض اتخاذ إجراءات لإدارة شؤون الناس اليومية لأنه إذا فرطت حلقات المجتمع تفرط حلقات المقاومة.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع