"الاحتلال النظيف".. صيغة مريحة للإسرائيليين، هل يعاد النظر فيها؟
الكاتب: ياسر الزعاترة
كاتب من الأردن
صحيفة
الحياة اللندنية 25/10/2003
قبل
أسابيع "احتفلنا" بمرور الذكرى العاشرة لتوقيع اتفاق أوسلو في 13/ 9/ 1993
وكان أن تذكرنا حكاية الاتفاق الذي قال لنا موقعوه: إنه سيضع أقدامنا على
سكة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية على كامل
الضفة الغربية وقطاع غزة، أي الأراضي المحتلة عام 1967. كما قالوا لنا في
حينه: إن الانتظار مكلف، لأن الاحتلال يقضم الأرض شيئاً فشيئاً، وأنه لا بد
من التحرك سريعاً قبل نشوء وقائع على الأرض يستحيل تغييرها.
الآن
وبعد عشر سنوات على الاتفاق نجد أن المسألة قد غدت أسوأ بكثير مما كانت
عليه عشية التوقيع. ففي تقريرها المهم في الحياة 15/ 9/ 2003 ، تخبرنا
سائدة حمد في "الحياة" أن الاستيطان قد تضاعف خلال السنوات العشر الماضية
بنسبة تفوق 100 في المئة، فيما تعرضت القدس لأخطر حملة "تهويد" بهدف ضبط
"التوازن الديموغرافي" وتنفيذ مشروع "القدس الكبرى"، ناهيك عن الإنجازات
التي تحققت للطرف الإسرائيلي وعلى رأسها السياسية، بالاعتراف الدولي ونزع
صفة المقاومة المشروعة عن الكفاح الفلسطيني.
بعد
عشر سنوات على أوسلو وأكثر من ثلاثة أعوام على قمة كامب ديفيد يتبين لنا أن
الحلم الذي قام عليه الاتفاق قد غدا وهماً وأن ما طرح في القمة المذكورة
على الفلسطينيين قد تراجع إلى صيغة أسوأ بكثير لخصها الجدار الأمني في أقل
من نصف الضفة الغربية وما لا يزيد عن ثلاثة أرباع قطاع غزة.
المعطيات السياسة بدورها غدت أسوأ بكثير، فاليمين المتطرف يحكم في تل أبيب
وواشنطن، وهو لا يبدو في وارد البحث عن صيغة أخرى للحل غير تلك التي اختمرت
في ذهنه على الصعيد الفلسطيني، وكما على صعيد التمدد الإسرائيلي في المنطقة
كما بشر به "الحمامة" بيريس، وإن بأدوات "صقورية!"
ربما
رأى البعض أن كثيراً من المعطيات القائمة قد جاءت تبعاً لانتفاضة الأقصى،
ونمط "العسكرة" والعمليات "الانتحارية" الذي ساد خلالها. والحال أن الجدار،
وإن جاء لاعتبارات أمنية، إلا أن عدم وجوده لم يكن ليعني أن الحل المطروح
سيتغير. ثم إن غياب الانتفاضة كان يمكن أن يؤدي في ظل أجواء ما بعد 11
أيلول 2001 وتالياً بعد احتلال العراق إلى فرض صيغة شارون للحل، وهي ذاتها
التي رسمها الجدار، من دون خسائر كتلك التي تكبدها الاحتلال خلال أعوام
الانتفاضة الثلاثة، سيما وأن مقاومة العراقيين لم تكن لتندلع - حسب معظم
المؤشرات - لولا عدوى ثقافة المقاومة والاستشهاد الفلسطينية التي سرت في
العالم العربي ومن ضمنه العراق.
الواقع
الفلسطيني بعد عشر سنوات على أوسلو بائس إلى حد كبير، نعني من وجهة نظر
الذين صاغوا الاتفاق ورسموا ملامحه، ذلك أن وجهة نظرنا تبدو مختلفة لأن ما
جرى قد أكد أن مسار المقاومة هو الحل، كما أكد قبل ذلك أن الشعب الفلسطيني
ليس في وارد الخضوع لبرنامج شارون، وأن الانتصار الذي تحقق خلال انتفاضة
الأقصى هو تكريس لهذا البعد في العقل الإسرائيلي، كما في وعي العالم بأسره.
من
وجهة نظر الاتفاق والمنطق الذي سار عليه يبدو الوضع سيئاً إلى حد كبير،
أكان أمنياً أم سياسياً، أم من حيث الوقائع الأخرى على الأرض. وهو كذلك وفق
معايير الوقت والإنجاز. وهنا يبدو سؤال المسار المتاح لحل هذه المعضلة
حاضراً بقوة في الوعي الفلسطيني وكذلك في الوعي العربي والإسلامي.
كيف يرد الفلسطينيون عـلى هذه المعادلة البائسة في ضوء التفوق العسكري
للاحتلال، وفي ظل العجز العربي، وحيث الانحياز الأميركي الأعمى، ومعه
التفهم الدولي للاحتلال والإدانة لمن يقاومونه؟
هل التراجع عن برنامج المقاومة والركض خلف "خريطة الطريق" يشكل حلاً، وكيف
سيكون التصرف إزاء أسئلة الحل النهائي في ضوء البرنامج اليميني إسرائيلياً
وأميركياً، وفي ضوء معطيات الجدار الأمني الجديدة؟
لا شك
أن ذلك يشكل مساراً مناسباً بالنسبة للبعض، لأنه يحافظ ببساطة على هيكلية
دولة وبعض الامتيازات حتى لو بقي من دون أفق سياسي، بل وفي ظل مخاوف من
قدرة الأوضاع السياسية ومعها العسكرية على فرض حل مشوّه على الفلسطينيين.
ثمة
خيار آخر يبدو متاحاً ويدركه الكثيرون، لكن التفكير في المضي على طريقه لا
يبدو ممكناً في عقل كثيرين أعجبتهم لعبة الدولة والوزارة والوزراء، حتى لو
كان على نحو لا يحمل مضموناً حقيقياً.
المسار
المشار إليه يشكل رداً ناجعاً على مشكلة أوسلو أولاً، والأهم على المسار
الذي اعتمد منذ عام ونصف، وتحديداً منذ عملية السور الواقي، آذار (مارس)
2002، والذي يتلخص بوجود دولة فلسطينية تتحمل تبعات حياة الفلسطينيين
المدنية وليس الأمنية، وتتيح للاحتلال أن يمارس عربدته الأمنية والعسكرية
دون كلفة بشرية ولا عبء اقتصادي يتصل بحياة الناس.
إنه
أفضل احتلال في العالم. فهنا ثمة قتل واعتقال وهدم بيوت ومطاردة للمقاومة
من دون أية كلفة خارج سياق ما تنجح المقاومة في اصطياده من أهداف في العمق
الإسرائيلي. وهنا ثمة احتلال لا يتحمل كلفة الإبقاء على الشعب المحتل على
قيد الحياة الكريمة. والخلاصة أنه "احتلال ديلوكس" وفق تعبير الكاتب
الإسرائيلي اليساري ميرون بينفينستي.
الخيار الآخر يلخصه الكاتب الإسرائيلي يهودا ليطاني في صحيفة "يديعوت
أحرونوت" (2/ 10) من خلال سؤاله: "ماذا يحصل إذا أعلن ياسر عرفات ذات صباح
عن حل السلطة الفلسطينية"؟
بعد
السؤال، يبدأ في تعداد المشاكل التي ستتبع ذلك الإجراء، والتي أولها اضطرار
"الجيش الإسرائيلي إلى البقاء هناك لزمن غير محدد، ما يعني أن عليه "إضافة
إلى المهمات الأمنية العادية"، أن يقوم بـ "حماية رجال الحكم الإسرائيلي
الذين سيتولون مسؤولية إدارة جهاز التعليم والإغاثة والمواصلات والمياه
والكهرباء والبلديات". وبالطبع، فإن ذلك سيتطلب "إيجاد التمويل للنشاط
المدني الذي تقدر كلفته بعشرة مليارات شيكل في السنة على الأقل". الكاتب
الإسرائيلي، ورغم إقراره بازدياد عدد المؤيدين للفكرة - فكرة حل السلطة -
فلسطينياً إلا أنه يشير إلى حقيقة مهمة أشرنا إليها آنفاً، وهي أن "تسع
سنوات من الحكم فعلت فعلها، فالبيروقراطيون وكبار القادة يتلقون أجراً
جيداً جداً ولن يتخلوا عنه بسهولة".
إن من
شأن هذا المسار الذي يتلخص في عودة الاحتلال المباشر للضفة وغزة، هو تحسين
شروط المقاومة العسكرية، وتحسين معطيات الوضع السياسي، حيث تعود المقاومة
إلى وضعها الطبيعي كرد على الاحتلال، وليس حرباً بين دولتين تنكرت إحداهما
لالتزاماتها التفاوضية ولجأت إلى العنف. وهو ما يذكرنا بالوضع الذي كان قد
بدأ يسوء قبل توقيع أوسلو ممثلاً في حرب استنزاف ضد الاحتلال سرّعت في
توقيع الاتفاق للتخلص منها.
لقد
بات واضحاً خلال العام ونصف العام الماضيين أن معاناة الفلسطينيين في ظل
الوضع القائم كانت أسوأ من الاحتلال الكامل، ما يعني أننا بإزاء وضع خدم
الاحتلال أمنياً وسياسياً واقتصادياً، وخلصه من الاحتلال المباشر، حيث
الاشتباك الأسهل مع جنود الاحتلال وموظفيه ومستوطنيه، وحيث الكلفة
الاقتصادية الباهظة، أي الاستنزاف البشري والمالي كما يحدث في العراق. أما
اعتقال القادة والرموز، فقد حدث في الضفة الغربية بشكل كامل، ويحدث في غزة
على نحو ما مع استبداله بالاغتيال الذي حوّل القادة إلى مطاردين في كثير من
الأحيان، أي أن الحصرم مأكول في الحالين من دون أفق بعنب حقيقي كذلك الذي
تبشر به حرب الاستنزاف المباشرة. وإذا تذكرنا أن استكمال بناء الجدار سيجعل
قدرة المقاومة على الردع بالضرب في العمق الإسرائيلي أصعب بكثير، فسندرك
أننا بإزاء معادلة ينبغي التفكير الجدي في الانقلاب عليها.
|