هرولة واعتذارات فلسطينية

2004/12/15

عبد الباري عطوان


يتصرف السيد محمود عباس (ابو مازن) وكأنه زعيم شرعي منتخب للشعب الفلسطيني، يوزع الاعتذارات، ويتحدث بطريقة صارمة عن عزمه نزع سلاح الانتفاضة، وحركات المقاومة، ويؤكد ان المفاوضات هي الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق الفلسطينية المغتصبة.


السيد عباس لم ينتخب رئيسا للسلطة الوطنية بعد، كما ان رئاسته للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مشكوك في شرعيتها، لان آخر اجتماع انعقد للمجلس الوطني الفلسطيني الذي ينتخب هذه اللجنة كان قبل عشر سنوات.


اللافت ان كل هذه التنازلات والاعتذارات تقدم والمياه لم تجف بعد علي قبر الرئيس الراحل ياسر عرفات، الامر الذي يجعلنا نستغرب هذه العجلة من السيد عباس والملتفين حوله للتجاوب مع الشروط الاسرائيلية لاستئناف المفاوضات. مثلما نستغرب هذه الجولات الانتخابية التي يقوم بها السيد عباس وشريكه في اوسلو، السيد احمد قريع رئيس الوزراء، في عواصم عربية، وخليجية بالذات، بينما لم نر مثلها داخل فلسطين المحتلة.


الجولات العربية للسيد (ابو مازن) جاءت سابقة لاوانها، مثلما انطوت علي قراءة تعكس نظرة قاصرة للواقع العربي، والمتغيرات الدائرة حاليا في المنطقة، فالسيد عباس تعامل مع القيادات الخليجية، والكويتية منها بالذات من موقع ضعف، وقدم اعتذارات غير مطلوبة، بينما كان عليه ان يتصرف من موقع قوة، ويناقش العلاقات الكويتية ـ الفلسطينية من موقع الند، كأن يفتح كل الملفات، وخاصة ملف المفقودين، والمقابر الجماعية لابناء شعبه في الكويت، والحقوق الفلسطينية المهدورة، وعمليات التعذيب النفسي والجسدي التي تعرض لها بعض ابناء الجالية الفلسطينية في الكويت علي ايدي عناصر الميليشيات الحكومية العائدة بعد التحرير. وهناك سجلات موثقة بهذه الوقائع والانتهاكات لدي الامم المتحدة، ومنظمة العفو الدولية في لندن، ومنظمة حقوق الانسان الفلسطينية في رام الله.


وقد غاب عن ادراك السيد ابو مازن ان جولات التسول السابقة قبل عام 1990 لم يعد من المجدي تكرارها بعد عقد ونصف العقد، لان معظم دول الخليج لا تدفع مساعدات الا باملاء امريكي، والكويت منها تحديدا. فالكويت لم تعد الكويت، والسعودية لم تعد السعودية. فقد مرت مياه كثيرة تحت جسريهما.
اما اذا انتقلنا الي مسألة نزع اسلحة المقاومة وانهاء الشق العسكري من الانتفاضة، واعادتها الي نهجها السلمي، فان في هذا مخاطرة كبيرة، والمضي قدما في هذا الطريق تجاوبا مع شروط شارون، هو مثل السير نياما وسط حقل من الالغام الخطرة.


السيد عباس ليس ياسر عرفات، ورصيده لدي رجل الشارع الفلسطيني يكاد يقترب من الدرجات الدنيا، فلم يفز في استطلاعات الرأي بأكثر من اثنين في المئة من اصوات الشعب الفلسطيني قبل رحيل عرفات، وهذا الرصيد لا يؤهله للدخول في حرب اهلية ضد فصائل المقاومة اذا ما قرر المضي قدما في خطته لنزع اسلحتها. فاذا كانت هذه الفصائل صمتت علي مواجهات سابقة اثناء شهر عسل اتفاقات اوسلو في سنواته الاولي، وتحملت اهانة حلق ذقون قياداتها في سجون الامن الوقائي، فربما لن تصمت هذه المرة، لان ما صمتت عليه خوفا، او اجلالا، للرئيس عرفات لا يمكن ان تقبله من السيد عباس، لرمزية الاول، وتبعية الثاني.


مضافا الي كل ذلك ان مشكلة السيد عباس الاكبر والاكثر الحاحا ستكون من صقور فتح وكتائب شهداء الاقصي، ولجان المقاومة الشعبية، وهي كلها جماعات تعمل تحت مظلة الحركة التي من المفترض انه يتزعمها، وتؤمن بالعمل المسلح كطريق اساسي لتحرير فلسطين، وسحب مروان البرغوثي لترشيحه في انتخابات الرئاسة لا يعني ان الحركة توحدت، وان خطر الانشقاق قد زال، بل تأجل فالسيد البرغوثي انسحب من الانتخابات، ولم ينسحب من العمل السياسي، ووضع شروطا تجعل الصدام بينه وبين منافسه السيد عباس حتميا، وفي المستقبل القريب، لان تلبية هذه الشروط هي نقيض لبرنامج (ابو مازن) السياسي ونسف له.


واذا عدنا لحديث السيد ابو مازن عن اعادة الانتفاضة الي طابعها السلمي علي غرار انتفاضة الثمانينات، فان هذا الحديث غير واقعي علي الاطلاق، لعدة اسباب، اولها ان عملية عسكرة الانتفاضة قطعت شوطا طويلا يجعل اعادتها الي نقطة البداية السلمية شبه مستحيل، فقد طورت العسكرة ادواتها، وتحولت الي ثقافة و منهاج حياة . وعملية نفق رفح الاخيرة كانت بمثابة معجزة عسكرية من حيث التنفيذ والتخطيط والحفر الهندسي، والشيء نفسه يقال ايضا عن هندسة تطوير صواريخ القسام ومداها ودقتها.


وحتي لو افترضنا ان هذه الانتفاضة عادت الي بداياتها السلمية، فهل يمكن ان تقابل بالتقدير من قبل شارون، والادارة الامريكية، بمعني الانسحاب الكامل والشامل من الضفة والقطاع وتطبيق قرارات الشرعية الدولية في عودة اللاجئين وقيام الدولة وعاصمتها القدس كاملة؟


(السيد ابو مازن، وحليفه احمد قريع (ابو علاء)، ومن قبيل التذكير فقط، نقول انهما اللذان فرطا بانتفاضة الحجارة، عندما باعاها مقابل اتفاق (اوسلو)، وهو الاتفاق الذي تضاعف الاستيطان في عصره الذهبي، وجــري ابتلاع معظم اجزاء القــدس الشرقية، ولم يقد الا الي فتح قنوات التطبيع العربي مع اسرائيل، واعادة تقديمها الي العالم كدولة ديمقراطــية ومسح كل خطــاياها وجرائمها، ونفــي صفة العنصرية عنها.


الشعب الفلسطيني يريد زعيما يرتقي الي مستوي تضحياته وبطولاته في مواجهة الاحتلال، ولا يركع عند اقدام الكويتيين او غيرهم طالبا الغفران عن ذنب لم يرتكب. الشعب الفلسطيني يريد قائدا يتمسك بالانتفاضة، ولا يقدم اي تنازل عن ثوابته مهما كانت عروض الطرف الآخر مغرية، ولا نعتقد انها ستكون كذلك.


شارون في مأزق، والرئيس بوش في مأزق اكبر، الاول فشل في الانتصار علي الانتفاضة، مثلما فشل في كسب تأييد حزبه لخططه الانسحابية من غزة، والثاني يواجه حرب استنزاف دموية ومالية في العراق الجديد ، ولذلك يريدان من القيادة الفلسطينية الجديدة ان تستر عورتيهما بتنازلاتها، وتلقي اليهما بعجلة انقاذ سياسية.


لا نريد هرولة فلسطينية، نريد ضبط نفس، والحفاظ علي اكبر انجاز فلسطيني في العصر الحديث وهو الانتفاضة، وعدم المساومة عليها، خاصة انها بدأت تعطي ثمارها، واولها كسر انف شارون واجباره علي الهروب مهزوما هو ومستوطنوه من قطاع غزة.

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع