قد يكون من السابق
لأوانه التكهن بالسياسات المحددة التي ستضطر حماس لإتباعها للتأقلم مع
وضعها الجديد كقوة مسيطرة عملياً على أماكن تجمع الفلسطينيين في الضفة
والقطاع، كما قد يكون من السابق لأوانه التنبؤ بردة الفعل الصهيونية على
الوضع الجديد. غير أن تلك الانتخابات، حتى لو كانت انتخابات في ظل
احتلال، وحتى لو كان هناك اعتراض مبدئي على الانخراط فيها، وبالتالي على
كل ما تفرزه، فقد حملت نتائجها الكثير من الدروس والعبر المتعلقة بالشعب
العربي الفلسطيني نفسه، بغض النظر عن الانتخابات نفسها.
فالتصويت لحماس هو
تصويت لبرنامجها السياسي المعلن، حتى لو تغير فيما بعد، وهو حتى هذه
اللحظة برنامج: أ) يرفض حق الكيان الصهيوني بالوجود، ب) يعتبر المشكلة مع
اليهود الموجودين في فلسطين، لا مع شيء هلامي اسمه الصهيونية بغض النظر
عن تجسيدها الفعلي على الأرض على شكل يهود محتلون في فلسطين، ج) يتمسك
بالمقاومة المسلحة كاستراتيجية للتحرير.
وإذا كانت هناك
مؤشرات، من تصريحات بعض قادة حماس أنفسهم (مثل تلك المتعلقة بالدولة
المؤقتة والهدنة المطولة)، أن ذلك البرنامج قد يكون عرضة للتغيير، فإن
الحركة كحركة تبقى عند الشعب العربي الفلسطيني التنظيم الذي قام بأكبر
عددٍ من العمليات الاستشهادية خلال انتفاضة الأقصى، والتنظيم الذي لم
يفرط بعد بذرة من تراب فلسطين، والذي لم يتلوث بالفساد.
بالتالي، بجب أن
نستنتج أولاً أن تصويت الشعب العربي الفلسطيني لحماس هو صوت لبرنامج
المقاومة المسلحة والتحرير، مقابل برامج التسوية والتفريط، أو برنامج
التحالف مع "اليهود التقدميين" مثلاً. أي أن النتائج تدل أن كل الجهود
التي بذلتها وسائل الإعلام العربية والعالمية، وكل الجهود التي بذلها
المثقفون العرب، وكل عمليات تلويث الوعي التي جهدت قوى سياسية مختلفة
لتخريب العقل والوجدان العربي والفلسطيني على مدى عقود قد باءت بالفشل
الذريع. فهنا دليلٌ أن الشعب الفلسطيني لم يخضع لعمليات التركيع
والحصار، وأنه يتمسك بكل من يتمسك بالثوابت، ويتخلى عن كل من يتخلى عنها.
وقد كانت صدمة بلا
شك لحزب السلطة، الذي يتوهم مثل كل سلطة أن مجده أبدي أو أن عرشه خالد.
وقد جاء فساد السلطة المالي والأخلاقي والفلتان الأمني الذي تسببت به
جماعاتها في الشارع عاملاً أساسياً وراء انتصار حماس في التشريعي. حتى
أن البعض صوتوا لحماس ليس لبرنامجها السياسي، بل لأنها تشكل بديلاً غير
ملوث لفساد وفلتان السلطة، ولأن عناصرها أكثر انضباطاً وربما أكثر قدرة،
بالتالي، على ضبط الوضع.
وقد تختلف أهمية هذا
العامل، عامل الفساد والفوضى، مقارنة بعامل الارتباط السياسي لرموز
السلطة وبرنامجها بالعملية التفاوضية والعلاقة مع العدو الصهيوني، في
ترجيح حماس على حزب السلطة بين مواطن ومواطن. ولكن الأكيد أن العاملين
تضافرا في التأثير بموقف الناس بصورة متوازية وتراكمية، لا متعارضة.
الدرس الآخر من نصر
حماس هو أن نتعلم عدم الثقة مطلقاً بنتائج استطلاعات الرأي التي تنشر
دوماً لا لقياس الرأي العام بشكل موضوعي، بل لصناعة الرأي العام والتأثير
عليه بهذا الاتجاه أو ذاك. فقبل انتخابات التشريعي، كانت تلك
الاستطلاعات تدعي أن الأغلبية لحزب السلطة، وهي نفس الاستطلاعات التي
ادعت من قبل أن الشعب العربي الفلسطيني خارج فلسطين يمكن أن ينظر في
"بدائل عملية لحق العودة" ونفس الاستطلاعات التي تدعي دوماً كل ما يريده
الذين صمموها على لسان الشعب، لا في فلسطين فحسب، بل خارجها أيضاً، وحتى
في أمريكا نفسها... والسر دوماً في اختيار عينة غير عشوائية، بطريقة أو
بأخرى، أي عينة متحيزة كما يقال في علم الإحصاء، لإيصال رسالة سياسية
معينة باسم الشعب.
الدرس الآخر من نصر
حماس الساحق في انتخابات التشريعي هو تحجيم الكثير من القوى التي كانت
تدعي أنها بديلٌ للسلطة وحماس، وإظهار وزنها الشعبي الحقيقي، خاصة تلك
التي تمولها المنظمات غير الحكومية الممولة أجنبياً، وتلك التي تقدم
طروحات تفريطية أكثر تهاوناً من طروحات حزب السلطة، باستثناء أنها تقدم
بلبوس يساري. وهو درس للجميع أن يفهم المزاج الشعبي، لا في فلسطين وحسب،
بل في الشارع العربي بشكل عام. فمن الممكن أن تخدع بعض الناس بالمصطلحات
الكبيرة المفتعلة كل الوقت، ومن الممكن أن تخدع كل الناس ببعض المصطلحات
الكبيرة المفتعلة بعض الوقت، ولكن ليس من الممكن أن تخدع كل الناس ببعض
المصطلحات الكبيرة المفتعلة كل الوقت. وشتان ما بين هذا اليسار الذي
يتبنى طروحات تسووية، ويقلق كثيراً على صحة "اليهود التقدميين" من
العمليات الاستشهادية، ويتمول من قطعان التمويل الاجنبي، ويركز جهده على
نفي الحضارية للأمة لمصلحة مشروع التفكيك، واليسار في أمريكا اللاتينية
الذي ينطلق أولاً من خطاب محلي ومن الهموم المحلية، ويتمسك بهوية
الحضارية في وجه مشروع العولمة، وهو ما يحتاج لمعالجة أخرى.
فلنتذكر إذن أن روح
الأمة لا تموت، وقد يتراكم عليها الغبار، وقد يتاجر بها الانتهازيون،
ولكنها تنتفض كل بضعة سنوات على الأقل لتعلن وقتها. وهذا الأمر يمكن أن
نلاحظه من مسيرة الشعب العربي الفلسطيني منذ بدأ الاستعمار اليهودي في
فلسطين...
والشعب
عملي جداً بالمناسبة، فهو يقدم دعمه لكل من يفيد مصلحة الأمة في لحظة من
اللحظات، فلو دامت لفتح، ما وصلت لحماس. ولو دام الشارع العربي للحركة
الناصرية والبعث والشيوعيين، ما وصل للإسلاميين. والآن على حماس أن تدرك
جيداً أنها، وإن كانت قد حققت نصراً انتخابياً وسياسياً مبيناً، فإنها قد
دخلت ميدان المعركة الانتخابية من بوابة أوسلو، أولاً، لأن السلطة تقوم
مشروعيتها على اتفاق أوسلو، وثانياً، لأن المجلس التشريعي لا يجوز أن يسن
أية قرارات لا يوافق عليها الاحتلال، وثالثاً، لأن الدخول في السلطة
يرتبط لذلك باستحقاقات سياسية وإدارية في العلاقة مع الطرف
الأمريكي-الصهيوني.
باختصار،
كان مقلقاً التزام حماس بالهدنة مع العدو الصهيوني دون التزام العدو
الصهيوني بها ودون الإفراج عن الأسرى، وها هي حماس تعرض تمديد الهدنة حتى
قبل إعلان انتصارها رسمياً. وكذلك كانت تصريحات بعض ممثلي حماس حول
الهدنة المطولة مع العدو الصهيوني والاستعداد لقبول دولة مؤقتة وما شابه
مصدراً لقلق الكثيرين من مناصري الحركة وأصدقائها. وقد جاء الدخول في
الانتخابات في ظل الاحتلال سبباً للمزيد من القلق والتساؤل حول ما إذا
كانت حماس تعتزم التحول عن برنامج والتحرير الكامل كما تحولت عنه فتح من
قبلها. ونذكر هنا أن برنامج النقاط العشر الذي بدأ فيه تحول فتح رسمياً
عن خط التحرير أكد على المقاومة المسلحة، بدوره، وعلى التحرير، ورفض
التفاوض والتنازل، سوى أنه فتح أفاقاً لإمكانية التفاوض بالشروط التي
تحددها الثورة الفلسطينية. فقد رفض برنامج النقاط العشر عام 1974 قرار
242 مثلاً لأنه يتعامل مع قضية الشعب الفلسطيني كقضية لاجئين، لا لأنه
يعترف بحق دولة العدو بالوجود مثلاً، ودعا إلى إنشاء سلطة وطنية فلسطينية
على أي جزء يتم تحريره من فلسطين، وبهذا أدخل البرنامج المرحلي من خرم
إبرة الثورة حتى النصر...
الشيء
المؤكد الآن أن وجود أغلبية لحماس في المجلس التشريعي يجعلها مسئولةً عن
كل ما تقوم به الحكومة الجديدة للسلطة الفلسطينية، حتى لو لم يكن وزراء
تلك السلطة من حماس نفسها. وهو ما يضعها أمام استحقاقات حقيقية تهدد
شعبيتها بالذوبان كقطعة جليد تحت شمس آب.
كما أن
حماس وضعت نفسها الآن في موضع المسئول عن انقطاع المساعدات الخارجية عن
الشعب المحاصر في الضفة والقطاع، وهو ما لا يجوز أن يتحول لسبب لتقديم
تنازلات سياسية بحجة عدم انقطاع تلك المساعدات في ظل غياب بدائل أخرى
حالياً، وفي ظل غياب حركة شعبية عربية منظمة يمكن أن تقدم دعماً جدياً
للانتفاضة بالرغم من الأنظمة.
نقطة أخرى،
أغلبية الأجهزة الأمنية من فتح والجماعات المرتبطة بالسلطة، لا بل أن بعض
عناصر تلك الأجهزة من العملاء السابقين للعدو الصهيوني في الانتفاضة
الأولى، وقد جاء ضم تلك العناصر للأجهزة الأمنية كأحد ملحقات اتفاقات
أوسلو، فهل ستبقى حماس على تلك الأجهزة كما هي بذريعة عدم التسبب بحرب
أهلية مثلاً، أم أنها ستضم أجنحتها المسلحة لتلك الأجهزة، وهو ما يشكل
عملياً غطاءً لنزع سلاح المقاومة؟
ولو
افترضنا جدلاً أن حماس لن تقدم أياً من التنازلات في القضايا أعلاه، وهو
ما نتأمله، ولو افترضنا أنها ستستمر على خط المقاومة، وهو ما نرجوه، فكيف
ستمارس عملها كحكومة محاصرة، ربما تتعرض لضربات عسكرية متتالية من العدو
الصهيوني؟!!
ولا شك أن الاحتمال الأخير هو الأفضل من وجهة نظر قبر
اتفاق أوسلو عملياً، ولو حدث، فسيقف الشعب العربي مع حماس بدون تردد كما
وقف دوماً مع كل من يواجه الطرف الأمريكي-الصهيوني وأذنابه، ولو كانت
توجهات حركة الأخوان المسلمين من العراق إلى مصر لا تدل على تبني توجهاتٍ
صدامية من هذا النوع، ويبقى أن الزمن سيكشف كل شيء، وما هذه إلا ملاحظات
أولية على هامش الصدمة التي تلقاها كثيرون اليوم
.