العبرة لحماس

بروفيسور عبد الستار قاسم

28/كانون ثاني/2006

يتحدث المراقبون عن العبرة التي يجب أن تستخلصها حركة فتح من الهزيمة التي منيت بها، لكن من المهم أيضا أن تكون هناك عبرة لحماس التي فازت. حققت حركة حماس فوزا كبيرا فاق كل التوقعات، ومن المحتمل جدا أن يكون لفوزها انعكاس على كل المنطقة العربية الإسلامية. هذه هي المرة الأولى التي تصل فيها حركة إسلامية إلى الكرسي الأول عبر الانتخابات، وهذا بحد ذاته عبارة عن حدث تاريخي يؤذن بسلسلة من الأحداث. ربما يبدأ ثقل نظرية الدومينو السياسية يلقي بنفسه على شعوب وحكومات المنطقة، ومن المحتمل جدا، بل من الوارد، أن يحدث فوز حماس تغييرات جوهرية على معادلة الصراع العربي-الصهيوني. المعنى أن أثر هذا الفوز يتجاوز فلسطين والأرض المحتلة/67 ليشمل رقعة جغرافية واسعة وكيانات سياسية متعددة، ومن المهم لحماس أن تأخذ عدة أمور بعين الاعتبار:

أولا: من المهم أن تثبت حماس أنها راغبة في وقادرة على استيعاب مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية وذلك لتؤكد للعالم أن الإسلام ليس دين انغلاق أو تعصب، وإنما دين انفتاح وتسامح وتقدير للآخرين. قالوا بعد انتخابات الجزائر إن الإسلام يقمع الحريات ويعشق الظلام والتخلف، وأيدوا خطوات الحكومة في التوقف عن إجراء الانتخابات. نحن أمام دول عدة على رأسها أمريكا ودول أوروبية لا تريد أن ترى إلا من خلال أحقادها، وعلينا أن نعلمهم أن الإسلام لا يقوم على الأحقاد ولا ينطلق منها، وأن المنطق العلمي الإنساني عبارة عن جزء لا يتجزأ من التعاليم الإسلامية. هذا فضلا عن الجماعات الداخلية التي تؤمن بما يؤمن به أهل الغرب، والتي من المفروض أن ترى الإسلام على حقيقته وليس حسب أوهامها. من المتوقع أن تستوعب القيادة الجديدة المسيحي والمسلم، والتي تغطي شعرها والتي لا تغطي، واليساري واليميني، الخ.

ثانيا: المطلوب من قادة حماس أن يكونوا أسوة، وقدوة للناس. من المتوقع أن يبقوا بين الناس ومع الناس، يتفاعلون معهم ويعيشون همومهم، ويتقاسمون معهم الآلام والأحزان، والأفراح والمسرات. بالتأكيد لا نريد أن نرى أحدا من القيادات يسوق سيارة ذات لوحة حمراء أو يحمل بطاقة VIP ، أو يرتفع له بناء من مال عام أو من الإكراميات. مبارك لكل شخص قادر من ماله الخاص، أما الناس فيرقبون، وهناك من سيتلذذ على قائد من حماس ترتاح جنبات بدنه على حساب الشعب. وحتى لو كان من بين الذين يتولون الإدارة ثريا، فإن عليه أن يتواضع أمام الناس الذين انتخبوه. هكذا تكسب القيادة حب الناس وودهم حتى لو لم تستطع حل مشاكلهم وقضاياهم. الناس يقدرون الشخص الذي يلبس ثوبهم، ويعرفون أنه يعيش معاناتهم، لكنهم ينفرون من أصحاب الأنوف التي لا تريد أن تشتم طعم الحرمان وضيق العيش. اوكد هنا أن الناس لا يظنون أن تحرير فلسطين وشيكا، لكنهم يريدون التخلص من كوابيس الاحتلال الداخلي.

ثالثا: القيادة الجديدة تدرك أن الإسلام يسود بالعدل وليس بالخنق، وأن الحرية هي أساس الإبداع. القمع والقهر يصنعان الأعداء والمنافقين، والعدل يجعل من العدو صديقا. ليس أكثر تأليفا للقلوب من العدل، ولا وسيلة أقوم منه نحو تحقيق وحدة الشعب والتكافل والتضامن بين أبنائه. وقد رأت هذه القيادة كيف يمزق القضاء الفاسد أواصر الناس ويبث في صدورهم الأحقاد والبغضاء.

رابعا: الحكم الناجح لا يقوم على الانتقام. هناك فرق بين العقاب والانتقام، الأول يعبر عن قصاص عادل، والثاني يعبر عن أحقاد تهدم ولا تبني. نحن الآن في مرحلة إعادة البناء، ومن المطلوب تعزيز الثقة بين الناس والاطمئنان إلى المدراء الجدد. هناك من لا شك سيتم حسابهم وهم الذين اقترفوا جرائم بحق الشعب الفلسطيني، لكن التجاوزات البسيطة لا بد من تجازوها عقابا، والتذكير بها ضميريا.

خامسا: هناك نقطة هامة تدخل في صلب النظرية السياسية وفلسفة الحكم، وهي تتعلق بالنسيج الأخلاقي أولا، والنسيج الاجتماعي ثانيا. لا يستطيع شعب أن يقف على أقدامه بدون سمو أخلاقي يمكنه من العمل الجماعي والتعاون المتبادل والسعي نحو الإنجاز على حساب الإسقاط. السمو الأخلاقي هو الذي يدفع باتجاه التقدم والبناء والتحصين الذاتي من مختلف الجوانب. الأمة التي تملك كل المقومات المادية ولا تملك الأخلاق، سرعان ما تجد ثرواتها قد تبددت، أما تلك التي لا تملك وتتمتع بأخلاق رفيعة مثل الصدق والإباء والوفاء بالأمانة والعهد والوعد سرعان ما تجد أن قدراتها المادية تكتسب زخما تصاعديا. لهذا من المتوقع أن تقوم القيادة الجديدة على إعادة بناء النسيجين الأخلاقي والاجتماعي للشعب الفلسطيني ذلك لكي يشعر الناس بتحول معنوي حقيقي في الحياة. هذه مسألة تتفوق على البحبوحة المادية لأنها تتعلق بالاطمئنان والأمن الإنساني الداخلي، أما المسألة المادية فتتعلق بالاستهلاك أساسا. من المفروض أن يشعر الفلسطيني أنه في مجتمع يشعر بشعوره ويهتم بأمره، وأن يعرف أنه ليس وحيدا، وأن المجتمع سيهب لمعونته في حال تعرضه إلى نائبات الدهر. هكذا سنكون أكثر قدرة على الإنجاز المادي، وعلى كسب القوة في البناء الداخلي ومواجهة التحديات.

سادسا: نقطة أخرى في غاية الأهمية تتعلق بالثقافة السياسية السائدة في هذه المرحلة التاريخية. يلاحظ الناس أن المفردات السياسية والمفاهيم التي يتم تناولها على مستوى وسائل الإعلام وفي الندوات والمحاضرات والتصريحات السياسية هي مفردات ومفاهيم أسقطها علينا الغرب. لقد صنع الغرب لنا ثقافة سياسية أصبحت جزءا من تفكيرنا، ونتعامل معها على أنها الحقيقة. فمثلا، يشعر بعضنا أنه إذا توقفت الأموال الغربية فإن الشعب الفلسطيني سيموت جوعا. يبدو أن الناس نسوا بأن الله هو الرزاق، وأن الذي يعتاش على غيره لن يشبع إلا ذلا. محا الغرب من أذهاننا فكرة الاعتماد على الذات. ومن الملاحظ أيضا أن العديد من الناس يظنون أن عدم الاعتراف بإسرائيل سيقود إلى الدمار لأن إسرائيل لن تتهاون معنا. ويبدو أن أناسا كثرا قد نسوا أن إسرائيل لم تتوقف عن عدوانها أبدا. وهناك من يتحدث عن قواعد اللعبة السياسية ومخاطر عدم الالتزام بها. هذه الأمور وما شابهها تشكل خطرا كبيرا على الشعب الفلسطيني وعلى كل الأمة.

من المطلوب تغيير هذه الثقافة بشكل تدريجي. المفردات يجب أن تتغير، وكذلك المفاهيم. العمل السياسي لا يمكن أن ينجح وفق عقول الغير، لكنه أيضا يجب ألا ينغلق على الغير. وهنا لا أبالغ إن قلت إن التغيير المفاهيمي المنتظر يقع على راس مخاوف الولايات المتحدة. لقد أغدقت أمريكا أموالا طائلة من أجل التأثير الفكري والثقافي، ولن تستسلم بسهولة لإعطاب وتدمير ما بنت.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع