يا
أبا مازن: هل ستصافح من تلطخت يداه بالدم العربي؟
د.
فايز صلاح أبو شمالة
بدأت إسرائيل في رش الملح على وجع الفلسطينيين، بدأت آلة الحرب
الإعلامية بث سمومها في الجسد المخدر انتظاراً، بدأ الإرهاب الفكري
الإسرائيلي يغزو مفاصل البعض بالوهن، بل راحت بعض العقول المنكمشة على
تجربة أوسلو، وبعض النفوس الخائرة تنفث سم المستحيل، وتكرر مأساة تجربة
أوسلو التفاوضية في شأن إطلاق سراح الأسرى، التجربة التي لم يسبق لها مثيل
في التاريخ، واندلقت حبراً أسوداً على ثوب الفلسطيني، وأذاقت الشعب المجاهد
ويلات الخذلان، فلم يسبق أن تخلى قائد شجاع عن جنوده في أرض المعركة، ولم
يسبق أن أدار الظهر وطني غيور لمن تقاسم معهم لقمة الوجع، ولم يسبق أن تركت
أم أولادها كي تنعم برغد الفتات، ذلك ما تم في أوسلو، وقالها مدير مصلحة
السجون الإسرائيلي ذات يوم شامتاً، ومندهشاً: لقد تخلى عنكم أيها السجناء
المفاوض الفلسطيني، ولم يرد ذكر لكم أيها الأسرى في الاتفاقية!!.
ومع ذلك لم يحاسب أحد، ولم يطرد أحد، ولم يرجم أحد، ولم يلعن
أحد، ولم يهان أحد شارك في مفاوضات أوسلو، ولم يتأوه ويتوجع، ولم يبك الدم
المر، والجمر الساخن سوى الأسرى الذين ما زالوا حتى يومنا هذا في السجون
الإسرائيلية.
إن قضية الأسرى من مسلمات الهدنة بين الطرفين، ومن بديهيات
التفاوض على استمرارها، ومن الثوابت الإنسانية في المجتمع الفلسطيني، إنها
تحمل معاني الوفاء لمن قدم زهر حياته، وتعزز مضمون الحس المشترك في الراحة
والتعب، وتعتبر حرية الأسرى أكثر أهمية من حرية الأرض التي من أجلها كانت
التضحية بالنفس، لأن من يتخلى عن الإنسان هانت عليه الأرض، ومن احترم تضحية
الإنسان صان التراب الذي نبت من حباته هذا الإنسان، ونحن لسنا في عجلة من
أمرنا على حرية الأرض وعلى استمرار الهدنة، نحن الشعب الفلسطيني نطالب
بتعلق التهدئة إلى حين إطلاق سراح الأسرى، هذا مطلب شعبي، وحاجة جماهيرية،
ودليل صدق القيادة أو تفريطها بحقوق رعاياها، ودليل أمانة القيادة أو عدم
وفائها وغياب شرفها، ودليل بداية تنوير مرحلة جديدة من الثقة والتفاهم، أو
امتداد مرحلة قد خبت من التسلق والتسلط.
لا يجب على شعب التضحيات أن يسمح لإسرائيل أن تملي عليه (
الكتجوريا) كما يسمونها بالعبرية، نحن الشعب الفلسطيني بكتائبه المقاومة
الذي توصل إلى الهدنة مع الجيش الإسرائيلي الغاصب، نشترط استمرار الهدوء
الذي بات حاجة إسرائيلية مثلما هو حاجة فلسطينية، نشترط ذلك بإطلاق سراح
جميع أسرانا في السجون الإسرائيلية، وما العيب في هذا الشرط الإنساني الذي
لا يلومنا عليه صديق، ولا يتنكر لحقنا به عدو، ولا نتهم فيه بالإرهاب، بل
بالإصرار عليه نفضح إرهاب إسرائيل، إن هذا الشرط هو النبراس الذي يرشد
مسيرة اللقاء التفاوضي، ويقودها إلى النجاح الذي يضمن لنا الحقوق الوطنية.
إن أبسط اختبار يفشل فيه الفلسطيني هو اختبار الأسرى، فمن عجز
عن تحقيق المطلب الإنساني هذا، فإنني أبشر الشعب الفلسطيني بعجزه عن تحقيق
المطلب السياسي، إن هذا الشرط لا يصح أن يتخلى عنه وطني أو نصف منتم، أكان
سياسياً، أم جاهلاً في علم التفاوض، فما دامت الحرب قد وضعت أوزارها، فإن
المنطق يقول، بأن كل ما نتج عنها من ويلات بما في ذلك الأسرى الفلسطينيين
يجب أن تشملهم حالة الهدنة.
وما أكثر ما يقوله الإسرائيليون !!! سيقولون: هؤلاء السجناء
أيديهم ملطخة بالدم اليهودي، وسيقولون: لن نشجع الإرهاب، ولن نساعد في
إطلاق سراح قتلة، ولن نعطي الحرية لمن أخذ حياة إسرائيلي، وسيقولون في عدم
إطلاق سراح هؤلاء الأسرى قدوة ردع لمن تسول له نفسه، وسيقولون: سيناقش مجلس
الوزراء هذا الأمر الهام والخطير والحساس بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي،
وسيعقد اجتماع أمني ليناقش كل حالة على حدة، وستبادر إسرائيل من جانبها إلى
إطلاق عدة مئات من الأسرى وفق نماذج محددة، وما أكثر ما سيقوله
الإسرائيليون!!! بل ما أوسع باب التهرب الإسرائيلي من الالتزام الذي سيفتح
بابه أصحاب تجارب المجادلة الممتدة إلى ما قبل التاريخ!! وما أضيق حيلة
الفلسطيني، وما أقل تأثيره في مفاوضات يسمح فيها للإسرائيليين بالخوض،
ويسمع فيها الصوت الإسرائيلي الذي لا يمل التسويف والتفصيل والتعكير لكل
اتفاق غير محدد المعالم، إننا أمام قضية غير خاضعة للتفاوض مهما كلف
الأمر.
إن الشعب الفلسطيني الذي أحب الحياة ما أستطاع إليها سبيلا، لا
ينظر إلى تحرير أسراه كأنه صار مستحيلا، وهو قادر على أن يرقص ثانية بين
شهيدين، يرفع بينهما للبنفسج مئذنة أو نخيلا، وينتظر من رئيس السلطة
الفلسطينية موقفاً؛ يحترم فيه نفسه أولاً، واستعداد شعبه ثانياً، ويعلن فيه
عن عدم المشاركة في لقاء شرم الشيخ مع إسرائيليين على رأسهم أرئيل شارون،
إذا قررت إسرائيل عدم إطلاق سراح أسرى فلسطينيين على يديهم دم اليهود كما
يدعون، لأن شارون أكثر من تلطخت يداه بدم الأبرياء من الفلسطينيين العرب.
ملاحظة:
الكاتب أسير محرر أمضى في السجون الإسرائيلية عشر سنوات.
|