الهجمات
الجديدة على حق العودة ستفشل جميعاً
سلمان أبو سته
صحيفة الحياة 24/2/2004
الهجمة
الضارية على حق العودة تتصاعد كل يوم. وهي, مثل وعد بلفور والصهيونية,
تعتمد على الدعم السياسي والمالي الغربي, ولكنها, عكس المثلين السابقين, لن
تنجح. والسبب أن الشعب الفلسطيني وعى الدرس, ودافع عن حقه في عودته إلى
بيته وأرضه طوال نصف قرن أو يزيد, ولم يرفع راية الاستسلام أو يركع, على
رغم معاناته الأسطورية.
الذين
ركعوا واستسلموا هم الذين لم يعانوا ولم يناضلوا, هم الذين استفادوا من
الرشوات السياسية والمادية من أوروبا وأميركا, هم الذين أرادوا حل مشاكلهم
وتقوية مراكزهم مع الحليفة أميركا على حساب الشعب الفلسطيني.
أصحاب
مؤامرة البحر الميت, التي يطلق عليها تكريماً مبادرة جنيف, استقبلوا في
وزارات الخارجية الأوروبية استقبالاً حاراً, مع أن الاتحاد الأوروبي لم
يعطهم الحفاوة نفسها.
كتبت
الصحف أن رئيساً عربياً طالب الفلسطينيين في منتدى أوروبي بالتخلي عن حق
العودة, لتحافظ "إسرائيل" على طابعها الديموغرافي اليهودي. وكتبت أيضاً أن
دولة عربية كبيرة تعمل على صوغ مشروع "خلاّق" لحل مشكلة اللاجئين, أي
بتوطينهم في أي مكان غير وطنهم.
وطلعت
علينا أخيراً منظمة حل النزاعات الدولية, المدعومة مالياً وسياسياً من
الغرب, بتكرار اقتراحها القديم بالتخلص من أصحاب الأرض الفلسطينيين, وترك
أرضهم خالصة للمهاجرين اليهود إليها.
ومقابل
هذه الهجمات يقف حوالي 5.5 مليون لاجئ فلسطيني يدافعون بإصرار عن حقهم في
العودة إلى ديارهم, ولن يستطيع أحد منعهم من ذلك, ولن يستطيع أحد نقلهم
عنوة إلى مكان جديد, وسيقاومون بكل شدة, سواء كانوا في فلسطين أم خارجها في
المنفى, أي عملية تنظيف عرقي جديدة, ولو تساقط منهم 100 أو 200, أقروا
بالتخلي عن حق العودة, ستبقى الملايين صامدة, مدافعة عن حقها في ديارها.
ما السبب؟
السبب
أن ارتباط الفلسطيني بأرضه امتد إلى أكثر من 15 قرناً ولن يستطيع أحد
إقناعه بأن هذه ليست أرضه, وأن موطنه المختار مكان آخر. وتدعمه في ذلك جميع
الشرائع الإلهية والقانونية, ومنها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان
والمواثيق الأوروبية والأفريقية والأميركية والعربية لحقوق الإنسان, ومنها
أيضاً قرارات الأمم المتحدة, وأهمها قرار 194, الذي أكدته الأمم المتحدة
135 مرة حتى الآن, ومنها أيضاً حرية الملكية الخاصة التي لا تزول باحتلال
أو تغيير سيادة.
هذا
الأساس الصلب الذي يعتمد عليه حق العودة هو ما يقلق أعداءها. فليس لهم خيار
بعد ذلك إلا تثبيط الهمم وإشاعة الإحباط, بل المساهمة في تدهور الأحوال
الاقتصادية والأمنية, حتى لا يعود للاجئ سبيل إلا الاستسلام وإسقاط حقه في
العودة. ولأن حق العودة غير قابل للتصرف, فهو حق لا يسقط إلا بتخلي صاحبه
عنه, وهذا هو هدف الحملة المسعورة على حق العودة الآن.
خذ
مثلاً مبادرة جنيف سيئة الذكر, على رغم الاستنكار الشديد لها من فئات الشعب
الأهلية والرسمية, لا يزال أصحابها ينفقون الأموال لنشر الدعاية عنها. فتحت
لهم أبواب الحكومات الغربية وأقاموا في أفخم الفنادق. من دفع نفقات هذا
العمل؟ فتحوا مكاتب في غزة ورام الله, ونصبوا فيها خبراء الدعاية, ووزعوا
النشرات بالآلاف, وأذاعوا على راديو (إف م) في فلسطين دعايات وضعها خبراء,
تدعو "أم العبد وأبو العبد" إلى التعقل والواقعية والاقتناع بأنه ليس في
الإمكان أبدع مما كان. ألا يذكرنا هذا بإذاعات الحرب العالمية الثانية, أو
إذاعة "الناطور" الإسرائيلية بعد النكبة مباشرة؟ ثم من الذي دفع نفقات هذه
الأعمال كلها؟ وأين السلطة الفلسطينية التي تمنع شيكات الأرامل من الوصول
إليهن؟ وأين مراقبة صرف الأموال التي تطالب بها أميركا كل بنك عربي؟ هل هذا
هو ثمن بيع الوطن العربي في فلسطين؟
خذ
مثلاً آخر. مبادرة القمة العربية في بيروت أشارت في ما يتعلق باللاجئين إلى
التمسك بحق العودة حسب قرار 194 "كما يتفق عليه". ما هو المقصود بالعبارة
الأخيرة "يتفق عليه"؟ مع من؟ مع "إسرائيل" بالطبع. إذا أصدرت المحكمة
قراراً بأن يرد السارق ما سرق, وأكدت قرارها أكثر من 100 مرة, فكيف يرضى
مالك المسروقات أن يترك للسارق خيار ما يرده من المسروقات, إذا شاء أن يرد
شيئاً. ونحن نعلم جيداً أن السارق لن يرد شيئاً إذ أن مبدأه الأساس أن يسرق
الأرض العربية ولا يردها. ألا يفرغ هذا النص المعترض قرار 194 من محتواه؟
هل إدراج هذا النص سهو أم سوء تدبير؟
مهما
كان التفسير, فإن صحف "إسرائيل" هللت به وأشادت بإسقاط القمة العربية لحق
العودة, وأنكرت على وزير فلسطيني له دور في ذلك تصريحه في لبنان بأن حق
العودة إلى يافا وحيفا مصان.
والآن
يقولون لنا إن حلاً "خلاقاً" لمشكلة اللاجئين سيقدم إلى القمة العربية
المنوي عقدها الشهر المقبل في تونس (مع أنه لم يتفق بعد على الزمان أو
المكان). وعندما يسمع الفلسطينيون كلمة "حل خلاّق" وليس حلاً قانونياً أو
عادلاً, فإنهم يدركون أن هناك "طبخة" جديدة. ولا يحتاج العالم إلى "خلق" أي
حلول. فالقرارات المبنية على القانون الدولي متراكمة وكاملة وسليمة ومفصلة,
ولا تحتاج إلا إلى التنفيذ, كما حدث في كوسوفا والبوسنة وتيمور الشرقية
ورواندا وغيرها. كلمة "حل خلاق" تعني خداعاً جديداً, مثل حل طابا, الذي
هللوا له, لأنه يعطي الفلسطينيين خمسة خيارات, لا واحداً. وعندما نفحص
تفاصيل هذا الكرم الزائد, نجد أن أربعة خيارات منها تعني اختيار الفلسطيني
لعنوان منفاه الجديد. وأن الخيار الخامس, العودة إلى الوطن, هو خيار رمزي
لذر الرماد في العيون, وليست له قيمة عملية, وأن الموضوع برمته ليست له
علاقة على الإطلاق بقرار 194 ولا بالقانون الدولي. بل إن هذا الحل الخلاق
مصمم أساساً على مخالفة القانون الدولي وإسقاط حق العودة, وهذه الدعوة إليه
هي جريمة حرب.
والتفسير بسيط. أن طرد الأهالي من ديارهم أثناء الحرب هو عملية تنظيف عرقي,
وهذه جريمة حرب, حسب اتفاقية لاهاي (1907) وجنيف (1949) وروما (1998). وأن
منع عودة اللاجئين بعد انتهاء القتال هو جريمة حرب أيضاً. وأن تكريس
التنظيف العرقي بالدعوة إلى الاستمرار فيه أو توسيع نطاقه إلى أماكن أخرى,
أو التحريض عليه, أو الدعوة له بالقول أو الفعل هو جريمة حرب أيضاً.
ولزيادة الإيضاح, فإن تحقيق عودة اللاجئ يكون بعودته إلى بيته الذي أُخرج
منه هو أو عائلته, وليس إلى أي مكان آخر حتى ولو في فلسطين, وهذا ما جاء في
نص المذكرة التفسيرية لقرار 194.
ولذلك
فإن لا مجال للمقايضة بين قيام الدولة الفلسطينية وحق العودة. فقيام الدولة
عمل سياسي ينطوي على بسط السيادة على رقعة من الأرض يصبح ساكنوها مواطنين
في الدولة, ويجوز أن يُنقض هذا العمل أو يتسع حسب الاتفاق الدولي. أما حق
العودة فهو غير قابل للتصرف ولا تجوز فيه المفاوضة, وينطبق على بيت اللاجئ
وأرضه التي أخرج منها, بغض النظر عن السيادة القائمة على ذلك المكان.
وهذا
مثال آخر على مهاجمة حق العودة. أصدرت "منظمة حل النزاعات الدولية" (ICG)
تقريراً في 5 شباط (فبراير) 2004 عن اللاجئين الفلسطينيين, تدعو فيه إلى
تكريس التنظيف العرقي بتوطين اللاجئين في أماكن لجوئهم الحالي أو في أماكن
جديدة.
وهذه
المنظمة أنشئت في النصف الثاني من عقد التسعينات, وهي ممولة تمويلاً جيداً
من الحكومات الأوروبية وأميركا عن طريق الممول الهنجاري اليهودي الأميركي
جورج سورس وإمبراطور برامج الحاسوب (ميكروسوفت) بيل غيتس. ولها مكاتب في
عواصم عدة منها عمّان, ومقرها الرسمي بروكسيل. وتحتوي قائمة مجلس أمنائها
على أسماء شخصيات ديبلوماسية وسياسية كبيرة, غالبها خارج الوظيفة, ويرأسها
مارتي اهيتساري, رئيس فنلندا السابق, ومديرها التنفيذي الفعال هو جاريث
ايفانز وزير خارجية استراليا السابق.
إذن
نحن أمام منظمة مهمة, مدعومة بالمال الغربي, وأخذاً في الاعتبار أعضاء مجلس
أمنائها, لها رصيد هائل في القانون الدولي, الذي نتوقع أن تعتمده الأسلوب
الوحيد السليم لحل النزاعات. وفي صيف 2003 قامت المنظمة من خلال أجهزتها في
عمان بمقابلة العديد من الفعاليات النشطة في مجال حقوق اللاجئين. ونتوقع
بعد ذلك أن يكون تقريرها صدى لآراء هؤلاء اللاجئين, وتسجيلاً صادقاً لما
يتطلعون إليه من تنفيذ حقوقهم المعترف بها دولياً.
لكن
المفاجأة أن هذا التقرير الجديد قد ضرب عرض الحائط بحقوق اللاجئين, ولم
يأخذ في اعتباره ما قالوه إلا من حيث أنهم "جوهر النزاع", ولكنهم مشرذمون
لا يؤثر رأيهم في الأحداث السياسية (!).
وكرر
التقرير ما جاءه في التقرير السابق عام 2002 عن اللاجئين, والذي يدعو إلى
تكريس التنظيف العرقي بتوطين اللاجئين في أي مكان من العالم, عدا وطنهم.
والدرس
الذي نتعلمه من ذلك, أنه على رغم الاطلاع الواضح على آراء اللاجئين, سواء
كانت ممثلة للمجموع أم لا, فإن توصيات هذه المنظمة في تقريرها, تجاهلت آراء
اللاجئين, وتجاهلت حقوقهم حسب القانون الدولي, واختارت أن تنحاز إلى الموقف
الإسرائيلي, الذي دعا إليه (شلومو جازيت) مدير الاستخبارات الإسرائيلية
العسكرية السابق, ودعت إليه المحامية الأميركية اليهودية الروسية الأصل
دونا آرزت, بالتخلص من اللاجئين الفلسطينيين, وإبعادهم أبعد ما يمكن عن
وطنهم.
وهذا
الموقف غير المتوقع من منظمة لها وزن ديبلوماسي ومالي كبير, يتناقض كلية مع
موقف برلماني آخر, له وزنه التمثيلي الكبير.
في صيف
عام 2000 قامت بعثة تمثل اللجنة البرلمانية المشتركة عن الشرق الأوسط في
البرلمان البريطاني بزيارة مخيمات اللاجئين في الضفة وغزة والأردن ولبنان
وسورية, لتقصي الحقائق ومعرفة آراء اللاجئين, وسجلت مئات الساعات من
شهاداتهم, وخرجت بالتوصية المتوقعة أنه, لإرساء قواعد السلام في الشرق
الأوسط, لا بد من تطبيق القانون الدولي في شأن حق العودة.
ويحق
لنا السؤال هنا: إذا كانت اللجنة البرلمانية اطلعت على آراء اللاجئين بشكل
موسع, وخرجت بهذه النتيجة, فلماذا خرجت "منظمة حل النزاعات" بتوصية أخرى,
لا علاقة لها بآراء اللاجئين, ولا بحقوقهم المعترف بها قانوناً؟ هل لأن
لديها أجندة خاصة تصب في مصلحة "إسرائيل"؟ وقد فشل كل دعاة إسقاط حق العودة
فشلاً ذريعاً في بيان السبب في ذلك, أو المبرر له. لم يستطع أحد منهم بيان
أي خلل في القانون الدولي الذي يدعم حق العودة. والذين اتخذوا من
"الواقعية" غطاء, لم يستطع أحدهم نقض الحقائق الآتية:
أن 80
في المئة من اليهود يعيشون في 15 في المئة من مساحة "إسرائيل", وأن أرض
اللاجئين لا تزال خالية إلا من مواقع الكيبوتس المفلس ومعسكرات الجيش, وأن
92 في المئة من "إسرائيل" أرض تسميها "أرض دولة" وهي في الواقع ملك
للفلسطينيين, وأنه لا يمكن أن يكون اليهود غالبية في فلسطين على المدى
المتوسط والبعيد إلا بإبادة الفلسطينيين, وأنه لا يوجد سبب سكاني أو جغرافي
أو قانوني أو اقتصادي يمنع عودة اللاجئين. وأن السبب الوحيد لمنع عودة
اللاجئين هو المحافظة على "إسرائيل" ككيان عنصري (الوحيد في العالم اليوم),
والذي شجبت الأمم المتحدة ولجانها المتعددة قوانينه العنصرية.
فهل
تقف أوروبا ومنظماتها بجانب العنصرية في "إسرائيل", كما وقف بعضها بجانب
جنوب أفريقيا العنصرية؟ وهل يقف سياسي أوروبي بجانب التنظيف العرقي الذي
تمارسه في "إسرائيل"؟ إن كان الأمر كذلك, فليقولوه بوضوح, ولا يحاولوا
خداعنا بأساليب ديبلوماسية.
وهل
تقف الفئة الضالة, التي تدعو إلى اتفاقية جنيف, مع إسرائيل" في تكريس
التنظيف العرقي؟ فليقولوا ذلك علناً. وهل تقف مع هؤلاء بعض المبادرات
العربية تحت عنوان "حلول خلاقة" عن علم أو سهو أو سوء تدبير؟ إن كانت هذه
هي الحال, فإننا مقبلون على نكبة جديدة.
وبالمقابل, هناك ما يقرب من ستة ملايين لاجئ من أصل عشرة ملايين فلسطيني
ووراءهم عدد كبير من الشعوب العربية والإسلامية والأوروبية المستنيرة,
وسيقفون جميعاً بالمرصاد لمحاولات عمليات تنظيف عرقي جديدة أو نكبة جديدة
أو محرقة جديدة.
* المنسق العام لمؤتمر حق العودة.
|