أحداث غزة وحكاية الفوضى و"الصوملة"
ياسر الزعاترة
صحيفة الشرق القطرية 27/7/2004
على
الفلسطينيين أن يختاروا بين «بناء نموذج في غزة» أو «الدخول في فوضى
ودمار». «نحن عند مفترق طرق: إما أن نحصل على استقلال فلسطيني أو أن نذهب
إلى وضع مماثل لوضع الصومال».
تلك
كانت عبارات السيد محمد دحلان مسؤول الأمن الوقائي في قطاع غزة التي وردت
في سياق تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز في قطاع غزة، وتزامن نشره مع
حوادث الخطف والاستقالات التي وقعت في القطاع وكان من بينها اختطاف اللواء
غازي الجبالي قبل أن يتم الإفراج عنه بشروط.
كيف
يمكن للمراقب أن يقرأ حقيقة ما جرى ويجري في الساحة الفلسطينية، وفي قطاع
غزة على نحو خاص، وهل يمكن القول بالفعل إن خيارات الفلسطينيين هي بالفعل
تلك التي ذكرها السيد دحلان أم أن ثمة خيارات أخرى ستبقى مطروحة خلال
المرحلة المقبلة؟
دعونا
نتحدث ابتداءً عن خصوصية ما جرى من عمليات خطف وحقيقة التهم الموجهة
للجبالي ولمن عيّن من بعده (موسى عرفات). وهنا يمكن القول إن أحداً في غزة
لا يمكن أن يكون راضياً عن هذين الرجلين الذي تتكاثر قصص فسادهم على نحو
مفزع منذ سنوات، ولا نعني هنا الجانب المالي فقط، وإنما الجوانب الأخرى
الأكثر إثارة في مجتمع محافظ كالمجتمع الفلسطيني. واللافت أن الرئيس
الفلسطيني قد سبق واستجاب لمطالب كثيرين في الساحة الفلسطينية وأقال
الجبالي لكنه ما لبث أن أعاده إلى مركزه من جديد.
في
قراءة ذلك لابد من التذكير بمنهجية الرئيس الفلسطيني المعتمدة منذ سنوات
طويلة في حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية وتالياً في السلطة
الفلسطينية، والتي تقوم أساساً على الولاء السياسي كمعيار للرضا والسخط.
فإذا كان الرجل خالص الولاء فإن ذنبه مغفور وسعيه مشكور. أما إذا كان غير
ذلك فإنه لن يحظى بأي رضاً حتى لو نافس عمر بن عبد العزيز في النزاهة، وإن
لم يؤد ذلك بالضرورة إلى استهدافه بشكل مباشر.
لكن
السؤال الكبير الذي طرح نفسه في سياق ما جرى هو هل إن فساد الجبالي هو ما
دفع إلى اختطافه بالفعل أم أن وراء الأكمة ما وراءها. وهنا يمكن القول إن
وقوف محمد دحلان خلف اللعبة لم يكن من باب التكهنات بل كان حقيقة واقعة
أكدناها في مقالات مكتوبة قبل أن يفتضح الأمر ويكشف الإسرائيليون التفاصيل.
لقد
كان واضحاً منذ البداية أن عملية مثل اختطاف الجبالي الذي لا يتحرك إلا
بموكب كبير لا يمكن أن تنفذ إلا من قبل رقم مهم في القطاع، وهنا لا يمكن
القول إن أحداً هناك يمكنه أن يتفوق على قوة محمد دحلان الذي منحه
الأمريكان شيكاً مفتوحاً ودعماً استثنائياً من أجل أن يكون الوريث الحقيقي
للرئيس الفلسطيني. وحين يكون المال متاحاً بيد رجل مثل دحلان فإن السيطرة
على حركة مثل فتح عدادها الأساسي الموظفون والمتفرغون لن يكون صعباً.
هذا
بالفعل ما جرى فقد نظم دحلان انتخابات داخلية لحركة فتح رغم أنف الرئيس
الفلسطيني، وكان أن فاز فيها المقربون منه، ولعل هذا الأمر الذي فجر
الصراع، إذ لابد أن يكون الجبالي الذي يعتبر نفسه مندوب الرئيس في القطاع
قد اعترض على الانتخابات فكان لابد من الرد عليه والتأكيد للجميع بأن دحلان
هو السيد هنا وليس الرئيس الفلسطيني نفسه.
ليست
الحكاية إذن حكاية فساد ونزاهة، وإلا فمن أين جاء دحلان نفسه بمئات الآلاف
من الدولارات ليشتري بيت الشوا في قطاع غزة، أي أكبر فيلا في القطاع، وهو
المعروف بفقره وفقر عائلته؟ ثم من أين جاء بالأموال الطائلة التي يصرفها
على الأتباع في فتح والسلطة وخارجهما؟
على أن
ذلك لا يعني أن موضوع الإصلاح ومحاربة الفساد ينبغي أن يبقى مؤجلاً ما دامت
السلطة قائمة ولا يريد أحد حلها من أجل المواجهة الشاملة مع الاحتلال، وهنا
لابد من القول إن إدارة الرئيس الفلسطيني للأزمة لم تكن موفقة وعليه أن
يعيد النظر في تحالفاته الداخلية بالانحياز للشرفاء في فتح ومعهم قوى
المقاومة الإسلامية، حماس والجهاد تحديداً.
لكن
ذلك لا يغير من حقيقة أن ما جرى من انتخابات ومن تحركات في القطاع، وحتى في
الضفة، لا يمكن إلا أن يكون جزءاً من الصراع السياسي الذي تتدخل فيه
الأجهزة الأمريكية والإسرائيلية التي ضاقت ذرعاً بعرفات وممارساته وتريد
رجلاً قوياً مكانه، فيما لا يتوافر لهذه المهمة سوى دحلان، وهو ما جلب له
الملايين لكي يشتري فتح وعناصرها ويبدأ بمد نفوذه وصولاً إلى إقصاء الرئيس
أو انتظار اليوم الذي يقضي فيه بشكل طبيعي، وهو اليوم الذي تحسب له القيادة
الإسرائيلية ألف حساب، إدراكاً منها لما يعنيه انهيار السلطة من كارثة
عليها، حيث ستضطر إلى العودة إلى نظام الاحتلال المباشر من جديد، بكل ما
يعنيه ذلك من مصائب سياسية وأمنية واقتصادية.
القصة
إذن لا علاقة لها بالفساد والإصلاح والخوف على مصير الفلسطينيين، بقدر
علاقتها باللعبة السياسية وإرادة إخضاع الفلسطينيين بالألاعيب والاختراقات
بعد الفشل في إخضاعهم من خلال القوة والغطرسة. أما الذين يرفعون الشعارات
المشار إليها فهم أبعد الناس عن هواجس الفلسطينيين وهمومهم، ولعل ذلك هو
السبب في فشلهم في الوصول إلى ثقة الناس الذين لا تخطىء بوصلتهم على
الإطلاق لأنها واضحة وبسيطة. فعندما يكون الإسرائيليون والأمريكان ساخطين
على الرئيس الفلسطيني فإن من الطبيعي أن تنحاز إليه الجماهير، لأنه سيكون
حينها في الخندق الآخر الرافض لدفع الاستحقاقات التي يريدون، وهو الذي لا
يطالب في الواقع العملي سوى بـ22% من أرض فلسطين التاريخية.
أما
الخيارات التي تحدث عنها دحلان، وأشرنا إليها في مقدمة هذا المقال فهي ليس
صحيحة لأن ثمة خيارات أخرى، لعل أبرزها الإبقاء على الوضع القائم انتظاراً
لظروف أفضل تلوح في الأفق من خلال الفشل الأمريكي في العراق وقبله فشل
شارون في إخضاع الفلسطينيين. ويبقى الخيار الآخر المعروف والذي طالما
تحدثنا عنه ممثلاً في تصعيد المقاومة واستثمار قرار محكمة العدل الدولية
بشأن الجدار، والذي أقرّ بأن الأراضي المحتلة عام 67 هي أراضٍ محتلة وليست
متنازعاً عليها كما تكرّس من خلال مسيرة أوسلو.
خلاصة
القول هي إن الفلسطينيين يعرفون خياراتهم حتى لو لم تتح لهم الظروف لوضعها
موضع التنفيذ، وفي كل الأحوال فإنهم ليسوا بحاجة إلى أوصياء عليهم من أولئك
الذين يتعاونون مع الاحتلال والأمريكان تحت ذرائع المصالح والخوف على الشعب
من الفوضى و«الصوملة».
|