غزة … المنعطف المجهول
محمود
جلبوط ـ صحفي فلسطيني ـ دمشق
بعد أيام قليلة تنسحب
إسرائيل من قطاع غزة وهي تجر أذيال الخيبة والفشل بعد احتلال جاوز الـ 38
عاماً، حاولت خلالها بكل ما تملك من إمكانيات تدجين غزة وإخضاعها، رغم كل
محاولاتها التي وصلت إلى درجة التدمير الشامل للقطاع واقتراف المجازر
البشعة. هذه المحاولات أدت إلى عكس ما توقعته إسرائيل وحسبته، فهي لم تزد
أهلنا الصامدين في غزة كما في باقي الأراضي الفلسطينية إلا صموداً وتمسكاً
بالأرض والهوية.
إن اندحار الجيش الإسرائيلي
ومستوطنيه من غزة هو إنجاز فلسطيني كبير، يرجع الفضل فيه ليس لصمود
المواطنين فقط، وإنما لما أظهروه من وحدة وطنية وتكاتف وتضامن حضهم على
مواجهة عدوهم واعتداءاته وجعلهم "كالبنيان المرصوص" أقوياء راسخين في أرضهم
رسوخ الجبال.
فخطة "فك الارتباط" الأحادية
الجانب من قطاع غزة كما تسميها إسرائيل، ومهما كانت المبررات والحجج
والغايات تضع الفلسطينيين في مواجهة استحقاقات لعلها الأخطر في تاريخ
الصراع العربي الفلسطيني ـ الإسرائيلي، فالانسحاب من غزة يلقي على عاتق
الفلسطينيين، بدءاً من السلطة وفصائل وقوى المقاومة أمام مسؤولية
الاستحقاقات مهما كانت صعبة ومعقدة، وأن المخاوف من أن يتحول الانسحاب من
قطاع غزة إلى "إشعال حرب أهلية" لا وجود لها في المجتمع الفلسطيني وبيئته
التي كانت على مر السنين بوتقة تنصهر فيها جميع القوى والأطياف وتتعالى عن
الأنانيات والذاتيات واضعة نصب عينيها مصلحة الوطن والشعب فوق كل اعتبار
بالرغم من كل الأحداث المؤسفة التي وقعت قبل أسابيع في غزة بين أجهزة الأمن
الفلسطينية وعناصر من حركة حماس، فالأسباب الأساسية للصدامات المسلحة
والمؤسفة التي أدمت قلوب الشعب الفلسطيني هو في التعاطي الانتقائي والتسويف
والمماطلة في تنفيذ إعلان القاهرة وسياسة التفرد والهيمنة على القرار من
قيادة السلطة من جانب، وتنفيذ الرؤيا الخاصة لحركة حماس من جانب آخر.
فإعلان القاهرة لا يمكن
اختصاره بالتهدئة فقط، بل هو وحدة واحدة مترابطة، باعتباره السبيل لإعادة
بناء الوحدة الوطنية على أساس من الشراكة والاحتكام لإرادة الشعب من خلال
الانتخابات، وبما يضع شعار "شركاء في الدم شركاء في القرار" وللجميع موضع
التطبيق.
الفلسطينيون ينظرون إلى
الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة من زوايا مختلفة، فهم يريدونه أن يكون
بداية لانسحابات إسرائيلية أخرى وخطوات تؤدي في نهاية المطاف إلى إقامة
الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة عاصمتها القدس العربية، في حين
ترى حكومة شارون أنه في الانسحاب من قطاع غزة تنازلاً أو كما سمته "فك
الارتباط" من جانب واحد، وتنتظر في المقابل ثمناً له من الجانب الفلسطيني
يقوم على نظرتها السابقة تجاه المقاومة والفصائل الفلسطينية في المقام
الأول.
إن إسرائيل في خطواتها
الأحادية الجانب تضع السلطة الفلسطينية في موقف صعب، فهي لم تقدم إجابات
حول الاستفسارات الفلسطينية بشأن المعابر وتفاصيل الانسحاب أو عن ميناء غزة
ومطارها، وهذا يدل على أن إسرائيل ترفض التنسيق مع أجهزة السلطة في هذا
الأمر، بينما تطالب السلطة بفرض النظام والأمن أثناء وبعد الانسحاب من
القطاع.
إن عدم التنسيق مع السلطة
الفلسطينية يخيف الفلسطينيين من أن يتحول قطاع غزة بعد الانسحاب إلى سجن
كبير من خلال استمرار التحكم بمنافذه والسيطرة عليه جواً وبحراً من قبل
الاحتلال بذريعة الحفاظ على الأمن الإسرائيلي، الأمر الذي سينعكس سلباً على
حياة ومعيشة المواطنين في القطاع، الذين يعيشون أصلاً أوضاعاً صعبة
ومتدهورة، جراء الممارسات الإسرائيلية الطويلة وفرض القيود على الحركة
والأنشطة التجارية والاقتصادية عوضاً عن التدمير والاعتداءات التي تركت
البنية التحتية في وضع منهار كلياً في ظل أرقام تشير إلى أن نصف سكان
القطاع يعيشون تحت عتبة الفقر و45% منهم في سن العمل يعانون البطالة.
هذه هي الصورة التي تسبق
الانسحاب من قطاع غزة تزيد من حالة الغموض والوضع المجهول المترتب على
الانسحاب من قطاع غزة وبعض المستوطنات من شمال الضفة الغربية.
فالفلسطينيون يشددون على أن
أي انسحاب لن يكون على حساب الثوابت الفلسطينية، وحقهم في إقامة الدولة
الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وعودة جميع اللاجئين الفلسطينيين إلى
ديارهم وفق القرار الأممي 194، ورفض الاستيطان وجدران الفصل العنصرية في
الضفة الغربية والقدس بموجب رأي محكمة العدل الدولية وقرار الجمعية العامة
للأمم المتحدة الذين يعتبران هذا الجدار مخالفاً للقانون الدولي.
وفي المحصلة فإن إسرائيل
بخطوتها للانسحاب من قطاع غزة، تمهد لمعالم جديدة وطرق أخرى لمسيرة السلام
كما تراها وبدعم أمريكي، فالانسحاب من غزة بات أمراً واقعاً ويمثل انتصاراً
للشعب الفلسطيني وحركته الوطنية ومقاومته الباسلة. غزة ليست الوطن، لكنها
جزءاً عزيزاً علينا ويجب أن نحافظ عليها ونعلي على أرضها سيادة القانون،
والتعددية والشفافية، لنثبت للعالم أهليتنا وكفاءتنا وقدرتنا على حكم
شعبنا.
|