فتنة الانسحاب من
غزة
فهمي هويدي
الانسحاب من غزة إنجاز
مسموم، لا تستطيع أن ترفضه، ولا تستطيع أن تقبل بنتائجه. وبالمعيار النسبي
هو خطوة إلى الأمام، لكن أخشى ما أخشاه أن تستصحب معها عشر خطوات إلى
الوراء، بحيث تتخلص “إسرائيل” من كابوس غزة، لكي تبتلع الضفة وتجهض الحلم
الفلسطيني.
(1)
أحذر من الوقوع في الفخ
والاستسلام للمبالغة في حجم الإنجاز، الذي هو في احسن فروضه خطوة أولى على
طريق استرداد الحق المسلوب، في حين تريده “إسرائيل” خطوة أخيرة، تمهد
لإغلاق ملف القضية، وتفتح الباب لتطبيع العلاقات مع العالم العربي. و ليس
سراً أن تسويق العملية بدأ بالفعل. وإذا كان وزير الخارجية “الإسرائيلي”
سيلفان شالوم قد تحدث عن “طفرة” في العلاقات العربية “الإسرائيلية” هذا
العام، فان وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس فصلت في الأمر، حين
أعلنت في تل أبيب (يوم 22/7/2005) أن الإدارة الأمريكية قررت أن تؤدي دوراً
نشطاً لإعادة العلاقات المقطوعة بين العرب و”إسرائيل”، بعد الانسحاب من
غزة. وقالت إن واشنطن تقترح عقد مؤتمر دولي لهذا الغرض، تشارك فيه عدة دول
عربية أقامت علاقات خجولة مع “إسرائيل”، وثمة دول مرشحة للانخراط في
التطبيع.
ما يثير التوجس ويبعث على
القلق أن تلك الضغوط تمارس في أجواء من عدم الممانعة، يخشى في ظلها أن يقع
العرب في الكمين ويبتلعون الطعم المسموم، بحيث ينتهي بهم الأمر إلى
الانصياع و الاسهام في إجهاض الحلم، عبر ادراج تسويغ التطبيع بعد الانسحاب
من غزة على جدول الأعمال العربي، وسط التهليل الإعلامي الذي يصور الانسحاب
بحسبانه عملاً “تاريخياً” يستحق الثناء والشكر.
الأجواء المواتية التي
ادعيها تتلخص في العوامل التالية:
- الخلل في موازين القوة،
الذي هو لمصلحة “إسرائيل” بامتياز، بفضل المساندة والدعم الأمريكيين
بالدرجة الأولى. إذ بسبب ذلك الخلل، فإن الطرف الأقوى سيكون الأقدر على فرض
إرادته وإملائها على الآخرين.
- الضعف الشديد في عموم
الموقف العربي، الذي يجعل العواصم المؤثرة في القرار حريصة على استرضاء
الولايات المتحدة والاستجابة لطلباتها. بل إن ثمة عواصم أصبحت لا تتردد في
التقرب من “إسرائيل” حتى بمصالحة شارون شخصياً! بمظنة أن ذلك يفتح لها
أبواب الرضى في واشنطن.
(2)
قبل حوالي أسبوعين، في
28/7/،2005 نشرت صحيفة “هاآرتس” مقالة مثيرة للانتباه، كتبها المفكر
والمؤرخ الصهيوني البارز ميرون بنفنستي، قال فيها إن شارون وأعوانه حين
أطلقوا مبادرة الانسحاب من غزة، دون أي اتفاق أو تفاهم مع السلطة
الفلسطينية، فإنهم من الناحية العملية أجهزوا على آخر بقايا مرحلة أوسلو،
التي قامت على الاعتراف بالفلسطينيين كطرف شرعي، يمثل مجموعة سكانية تستحق
أن تمتلك حق تقرير مصيرها. وقد وصف الخطوة أحادية الجانب بأنها بمثابة
إعادة العجلة إلى الوراء، للفترة التي حاولت فيها “إسرائيل” استلاب حق
الفلسطينيين في تقرير مستقبلهم. مدعية انهم ليسوا كياناً ثقافياً وسياسياً
وشرعياً، وانما هم مجموعة من “الإرهابيين”، الذين يتعين عدم إشراكهم في أية
مفاوضات. وأبدى الرجل دهشته من أن بعض الأطراف العربية التي تختلف جذرياً
في هذه النظرة للفلسطينيين، تبدي حماساً لمساعدة شارون على تنفيذ خطته،
التي يرفض فيها أية محاولة لإجراء مفاوضات طبيعية بين طرفي الصراع.
(3)
تغنينا هذه الشهادة في تسليط
الضوء على دوافع القيادة “الإسرائيلية” في تقريرها لفكرة الانسحاب من غزة،
بغير أي تفاهم أو اتفاق مع الفلسطينيين، وكيف أن هذه الخطوة أبعد ما تكون
عن البراءة أو حسن النية، كما يتوهم البعض. إلا أنني أضيف إليها بعداً آخر،
يتمثل بأنه ما من اتفاق تم مع “إسرائيل”، أو مبادرة صدرت عنها، إلا وظفت
لتسكين وتخدير الطرف الفلسطيني والعربي، ولإطلاق يد “اسرائيل” في ممارسة
التوسع وتكريس الاحتلال، وفرض وقائع جديدة على الأرض لاغتيال الحلم
الفلسطيني.
لماذا الانسحاب من غزة
بالذات؟
في الإجابة على السؤال ينبغي
أن يكون واضحاً أن ثمة إجماعا بين المعلقين في الدولة العبرية على انه حين
اقدم على تقرير تلك الخطوة، التي استخدم في وصفها مصطلح “فك الارتباط”،
فإنه انطلق من منطق إدارة الأزمة وليس حلها. وهؤلاء يؤكدون أن الرجل بات
يدرك انه ليس بإمكانه الاحتفاظ بالمشروع الاستيطاني بكامله في الضفة وقطاع
غزة وهضبة الجولان، وذلك لسببين جوهريين هما: اندلاع انتفاضة الأقصى التي
كانت عالية التكلفة بالنسبة له، ولعدم استعداده دفع أي ثمن لقاء أي تسوية
سياسية مع الطرف الفلسطيني. لذلك آثر أن يلجأ إلى خطوة فك الارتباط من جانب
واحد. وكانت غزة هي الأكثر ملاءمة لتنفيذ خطته، لماذا؟
للتخلص من الثقل السكاني
الفلسطيني (يعيش في القطاع مليون وحوالي 300 ألف نسمة)، وهو الهاجس الذي
يؤرق “إسرائيل”. إذ بعد الخروج من غزة فان الصراع يحسم ديموجرافياً لمصلحة
الدولة العبرية. وقد عبر شارون عن ذلك صراحة اكثر من مرة.
انعدام الفائدة الاستراتيجية
لقطاع غزة. سواء من حيث الموقع، أو الحجم (مساحته 365 كيلومتراً مربعاً،
مثل 6% من الأراضي التي احتلت عام ،67 كما انه اصغر من أي محافظة في الضفة
الغربية) والى جانب انعدام الفائدة الاستراتيجية، فإن الاستيطان في القطاع
لا يوجد له ما يبرره في الأساطير الدينية.
بالنسبة “لإسرائيل” فإنها
تريد أن تستغل الانسحاب من غزة، لكي تسوقه بحسبانه تنفيذاً “إسرائيلياً”
لقرار مجلس الأمن 242 في صيغته الإنجليزية. ومن الثابت أن الجهات المختصة
في “إسرائيل” أعدت دراسة ووثائق قانونية في هذا الصدد، للاستناد إليها في
تسويق هذه الحجة بالمحافل الدولية.
(4)
هل ينتهي احتلال غزة بعد
الانسحاب المفترض، وهل خروج “الإسرائيليين” من القطاع فيما سمي بفك
الارتباط يعد انسحاباً حقيقياً من وجهة نظر القانون الدولي؟
بين يدي تقرير لمجموعة من
القانونيين الفلسطينيين الذين يعيشون في الداخل، ويدركون حقيقة الدوافع
والتفكير “الإسرائيليين”، لا يتسم بأي قدر من التفاؤل. إذ يرون أن الاحتلال
سوف يستمر ولكن بصورة أخرى مغايرة. وتتلخص وجهة نظرهم فيما يلي:
“إسرائيل” ستواصل السيطرة
على أجواء القطاع، وفي نفس الوقت ستحرم الكيان الفلسطيني من استخدام هذه
الأجواء بدون إذن الدولة العبرية. وعلى الرغم من أن “إسرائيل” لم توافق على
إعادة تشغيل مطار غزة الدولي بعد. إلا أنها أوضحت بشكل لا يقبل التأويل
أنها ستفرض قيوداً مشددة على ظروف تشغيله.
“إسرائيل” ستواصل السيطرة
على شواطئ القطاع تماماً، وستواصل حصارها، بمعنى أن الكيان الفلسطيني لن
يتمتع ب “مياه إقليمية” يحق له فيها إقامة ميناء يعمل بشكل حر، وعلى الرغم
من انه حتى الآن لم تتم الموافقة على تدشين الميناء، إلا أن “إسرائيل” تصر
على أن تشغيله سيخضع لنفس أسلوب تعاملها مع المطار.
حتى هذه اللحظة لم توافق
“إسرائيل” بصورة رسمية على إخلاء الشريط الحدودي، ورغم تواتر الحديث عن
إخضاعه في النهاية للإشراف المصري، فإن “إسرائيل” تؤكد أنها ستواصل فرض
قيود على الحركة عبر الشريط.
الأدهى من كل ذلك هو ما كشفت
عنه أيضاً “هاآرتس” (في 5/7/2005) وهو انه بخلاف التبريرات التي أعلن عنها
لتأجيل الانتخابات التشريعية، والتي ادعى فيها أنها جاءت لصياغة قانون
انتخابي جديد، فان الصحيفة نقلت عن مصدر كبير في مكتب شارون قوله إن
“إسرائيل” والإدارة الأمريكية تلقت تأكيدات من قيادة السلطة بأن تأجيل
الانتخابات التشريعية جاء من أجل منع مشاركة حماس فيها
|