"
فتح".. بين الاستعلاء السياسي وازدواجية الخطاب الإعلامي..!!

بقلم: مؤمن بسيسو*

تستطيع حركة "فتح" أن تعرض تشخيصها لبواعث ومسببات الأزمة الوطنية الراهنة، التي سبقت وأعقبت خطاب الأستاذ خالد مشعل، وأن تُجيّر كافة أدواتها السياسية وفعالياتها الإعلامية لفرض رؤاها وتصوراتها، لكن من المؤكد أن هذا التشخيص الأحادي والقلب المتعمد لحقائق الواقع لن يلامس أوتار عقل وشغاف قلب الغالبية الساحقة من الفلسطينيين.

لا حاجة لاستحضار أي دليل لإثبات منطق الاستعلاء السياسي الذي تتعاطى به "فتح"، وما يتبعها من مؤسسة الرئاسة واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وازدواجية خطابها الإعلامي، الذي يبسط لغة علنية أقرب إلى الوحدة وشعارات التعاون والتكاتف الوطني، فيما يمارس لغة داخلية تنظيمية تتربص بحركة "حماس" والحكومة الجديدة الدوائر، وتضعها في دائرة التحريض والاستهداف المباشر.

إنصافا، فإن "فتح" ليست حركة واحدة، بل هي جسم منشطر ومتشظ إلى أجنحة وتيارات متعددة ومتباينة، وتحتوي بين صفوفها من يدعمون الحكومة الجديدة، ويأملون لها الخير والتقدم، كما أولئك الذين يرصدونها خطوة خطوة، ويتآمرون عليها، ويقذفون في وجهها حمم الإفشال والتخريب.

في تداعيات خطاب الأخ مشعل الذي أثار الأخوة في "فتح" وأجّج مشاعرهم، الكثير من المبالغة والتلفيق والتدليس، والكثير من التحشيد الفئوي والتوظيف السلبي الذي يكاد يكون مبرمجا ومدروسا عن سابق إصرار وتصميم.

بداية، فإن مشعل لم يذكر فصيلا بعينه، ولم يتحدث سوى عن تواطؤ داخلي لتيار محدد، يمتهن التحريض والتخريب، ويتساوق مع فصول المؤامرة الخارجية وتجليات الحصار المضروب، ويعبث في المصير الفلسطيني دون رادع أو حسيب، معرجاً على ذكر مجموعات مأجورة تنتسب إلى الأجهزة الأمنية، وتعتدي على المؤسسات العامة، وتخطط لضرب الاستقرار الوطني وتعزيز الفلتان الأمني، واستثارة الجماهير والقطاعات الوظيفية، بين يدي إفشال الحكومة وحشرها في زاوية ضيقة لا تستطيع معها فكاكا.

ما يتصل بالرئيس "أبو مازن" كان أوضح من أي تأويل، فالرجل الذي وصف عملية تل أبيب بـ"الحقيرة"، ولم يتوان في سحب العديد من صلاحيات الحكومة، وألغى – بكل فوقية واستعلاء- قرارات وزير الداخلية التي تصب في مصلحة شعبنا وإنهاء فوضى الجريمة والفلتان الأمنى، نال نقدا مستحقا في إطار موضوعي لم يخرج – بتاتا- إلى دائرة المسّ والتجريح الشخصي.

ما صرح به مشعل، رغم حدته وصراحته، لم يخرج – بحال- عن حدود الواقع، أو يتجاوز الحقيقة التي يستشعرها كل مواطن فلسطيني حرّ مؤخرا.

 كلي عجب من حرف التصريحات عن مسارها، وتضخيم بعض جزئياتها، وتلفيق البعض الآخر، فقدا بدا واضحا أن أصابع الفتنة قد لعبت لعبتها، لتظهر الأمر برمته وكأنه هجمة كبرى على "فتح" بكل تلاوينها، وعلى الأجهزة الأمنية بكل مسمياتها، رغم تأكيد مشعل على إشادته واحترامه لـ"فتح"، وللأجهزة الأمنية، واقتصار نقده على تيار عابث مخرب يوظف جانبا محدودا ومعزولا من عناصر الأجهزة الأمنية.

ما نعيشه اليوم من ممارسات وسياسات وتداعيات على الساحة الوطنية، يبرز حالة مشوهة من العصبية الفصائلية، والازدواج الوطني، والنفاق السياسي، ومستوى خطير من ضعف الاستجابة للمسئولية الوطنية، والإسهام المتعمد في دفع وتيرة التخريب والاستهداف في وجه مسيرة الحكومة الجديدة وبرامجها الإصلاحية.

لماذا يراد أن يتم تمرير تواطؤ "البعض" داخليا، وعرقلته عمل وخطط الحكومة الجديدة، بكل الأشكال الفاقعة والوسائل الخبيثة، بصمت ودون ضجيج؟! وهل ستبقى مفردات الحفاظ على الوحدة الوطنية، وصيانة الجبهة الداخلية، سيفا مسلطا على رقابنا دوما، يمنعنا من الصدح بالحقائق والمجاهرة بالوقائع وكشف المستور، وتجرع العراقيل والمرارات التي يتفنن "البعض" في صناعتها وإبداعها وتكريسها على مسار وطريق حكومتنا الجديدة التي لم تكمل بعد شهرها الأول؟!

لا أدري هل يمكن استساغة وضع خطاب مشعل في كفة، وجملة الممارسات والمواقف التي أُشهرت في وجه "حماس" والحكومة الجديدة عقب ظهور نتائج الانتخابات التشريعية وحتى اليوم في كفة أخرى، كنوع من المقارنة والقياس، واستخلاص العبر والمؤشرات، وتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود في علاقاتنا الوطنية؟!

في المحور الإعلامي فقد فتح "البعض" ضد "حماس" نيران حرب إعلامية شرسة، بلهاء بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لم تراع للوطنية قيمة، أو للأخلاق المهنية مكانة، أو لحساسية المرحلة وخطورة تحدياتها دورا، لتجعل من "حماس" ولاحقا الحكومة الجديدة شغلها الشاغل، وتبدع في فبركة الأخبار والتقارير، وتشويه الوقائع والأحداث، وإخراج القضايا عن سياقها الطبيعي، وتتفنن في ضخ جرعات من التحريض الأعمى في سياق معالجاتها الإعلامية المختلفة!!

في المحور السياسي تم إخراج اللجنة التنفيذية للمنظمة من رقادها الأبدي، واستخدامها كأداة مناكفة شوهاء في وجه "حماس" والحكومة الجديدة بين حين وآخر، وتم التعامل مع البرنامج السياسي للحكومة الجديدة وكأنه برنامج شاذ قد جاء إلينا من القمر أو المريخ أو مجاهل أفريقيا، واستمراء خطاب فوقي استعلائي في بحث أو تقييم أداء الحكومة سياسيا، يحاول جرّ الحكومة إلى مربع الفشل السياسي المزمن الذي أصاب مشروع "فتح
" السياسي، دون أن يعنى بأي بحث في برنامج توافقي مشترك يمثل وصفة للالتقاء في منتصف الطريق بين البرنامجين المتضادين!!

الأدهى من ذلك أن لغة العلاقة مع مؤسسة الحكومة قد بلغت حدا خطيرا بالتلميح بإمكانية إقالة الحكومة، وهو تلميح لا ينم عن أي واقعية سياسية أو مسئولية وطنية، بل مدعاة لاستجلاب أزمات دستورية لا تحتملها الساحة الداخلية بحال.

في المحور الميداني فقد تم الاعتداء على المؤسسات العامة، وإحداث تمرد في بعض الوزارات، وزج العناصر والأنصار في أتون الخلافات السياسية، وتحريض عناصر الأجهزة الأمنية ضد "حماس"، عقب خطاب مشعل، ورفض قرارات وزير الداخلية، والاستغراب من استدعاء كتائب القسام، لتعزيز دور السلطة في مواجهة الفلتان الأمني!!

الأمر الأكثر إثارة الذي لفت ناظري، يتعلق باللغة الباهتة وغير الموضوعية التي تناول بها العديد من الكتاب خطاب مشعل، وتراوحت بين أشكال التعبير عن الحقد والصفاقة والنقد الفج، مرورا بالتحامل النسبي، وصولا إلى النقد الخاطئ وغير الموضوعي، في مشهد إعلامي مشوه عبر عن انحراف في القيم الوطنية والمعايير المهنية التي تحكم إنتاجنا الفكري وأداءنا الإعلامي.

أختلف مع توقيت خطاب مشعل، لكن ما نطق به لم يأت من فراغ، ولا حلّ متاحاً أمامنا كفلسطينيين إلا نزع استعلائنا ورغباتنا السياسية جانبا، والنزول على برنامج قواسم مشتركة، والتوقف عن سياسة المناكفات والمساجلات وزرع العراقيل والمطبات في وجوه بعضنا البعض، وإلا فإن الشعب كله والساحة بأسرها هي –

للأسف- من تدفع الثمن!!  

* كاتب صحفي فلسطيني – غزة.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع