فتح إلى أين؟؟
عاطف الجولاني
*
15/03/2005
ثلاثة عوامل أسهمت في زيادة حالة التعاطف مع رئيس السلطة الفلسطينية ياسر
عرفات لحظة وفاته.
الأول: رفضه التوقيع على اتفاق حلّ نهائي مع الإسرائيليين في قمة كامب
ديفيد (2) عام 2000 بسبب الموقف من قضيتي القدس واللاجئين.
والعامل الثاني: الحصار الطويل الذي فرضته عليه سلطات الاحتلال الإسرائيلي
في المقاطعة برام الله خلال انتفاضة الأقصى، ورفضه الخروج من الأراضي
الفلسطينية كثمن لإنهاء حالة الحصار.
والثالث: طريقة وفاته التي حملت شبهة كبيرة بقيام حكومة شارون باغتياله عن
طريق السمّ البطيء.
عقب وفاة عرفات استغرب البعض مقولة: إن حركة فتح خسرت بذلك نصف قوتها على
أقلّ تقدير، ورأوا في الأمر قدراً من المبالغة، لا سيما في ظل ما رأوه من
تعاطف واضح مع الحركة على المستوى السياسي والإعلامي والشعبي بفعل العوامل
الثلاثة السابقة. ويبدو أن هؤلاء لم يدرسوا جيداً تجارب مشابهة اختفى فيها
الزعيم والرمز صاحب "الكاريزما" والحضور القوي والنفوذ والسيطرة المطلقة
على مفاصل الحالة التنظيمية.
لقد جرت العادة أن يشعر الحزب الحاكم أو الحركة المتنفذة بحجم الخسارة
المترتبة على فقدان الرمز والزعيم القائد المهيمن. وبدافع الخوف من تراجع
النفوذ وفقدان السيطرة على مقاليد السلطة، كانت تلك الأحزاب والحركات
تتجاوز، مؤقتاً، خلافاتها وصراعاتها الداخلية وتؤجلها إلى وقت لاحق، وتحرص
على إظهار قدر كبير من التماسك سعياً للحفاظ على السلطة والزعامة
والمكتسبات.
غير أن حالة التماسك تلك كانت لا تستمر لأكثر من عدة شهور، وفي أحسن
الأحوال لسنة، وسرعان ما كانت تظهر انعكاسات غياب الرمز "الكاريزمي" على
قوة الحركة ووحدتها وتماسكها. وهو ما حصل مع حركة فتح، لكن مع فارق بسيط،
حيث لم تستمر حالة التماسك التي أبدتها الحركة بعد وفاة عرفات سوى فترة
قصيرة مقارنة بحالات مماثلة.
الانقسامات والخلافات تطل برأسها
الأسابيع الأخيرة شهدت جملة تطورات خطيرة عصفت بالوضع الداخلي لحركة فتح.
حيث قدّم نصف أعضاء مكتب التعبئة والتنظيم استقالتهم من المكتب الذي يضم في
عضويته (32) قيادياً يمسكون بزمام القيادة التنظيمية الميدانية للحركة.
وعلل المستقيلون قرارهم بتردي الأوضاع داخل الحركة بفعل هيمنة أعضاء اللجنة
المركزية على القرار السياسي فيها، ووجّهوا انتقادات لاذعة لرئيس مكتب
التعبئة والتنظيم وعضو اللجنة المركزية هاني الحسن، وقالوا: إنهم أرادوا
باستقالتهم دق ناقوس الخطر والتنبيه إلى خطورة الوضع الذي تمرّ به الحركة
في المرحلة الحالية.
المستقيلون لم يكتفوا بتقديم استقالتهم من مكتب التعبئة، بل أتْبَعوا ذلك
بدعوة لعقد اجتماع تنظيمي في مدينة رام الله لقيادات وكوادر "فتح"، لمناقشة
ما تعانيه الحركة من تراجعات وأوضاع داخلية متردّية، وبحث سبل معالجة
الاختلالات والخروج من الأزمة الراهنة التي تعيشها الحركة .
غير أن الاجتماع سرعان ما انفض إثر قيام عشرات المسلحين من كتائب شهداء
الأقصى الجناح العسكري لحركة فتح بإطلاق الرصاص، ومن ثم اقتحام مقرّ
الاجتماع وطرد المشاركين بالقوة. وحمّل حسين الشيخ أمين سر مرجعية فتح وأحد
أبرز القياديين المستقلين من مكتب التعبئة والتنظيم، قيادات فتحاوية
متنفّذة مسؤولية ما جرى من استخدام للعنف في فض الاجتماع، ، في إشارة إلى
أعضاء اللجنة المركزية للحركة.
وبالتزامن مع ذلك كانت مدينة نابلس تشهد اشتباكات مسلحة بين أفراد من أجهزة
أمن السلطة المحسوبة على حركة فتح، وبين عناصر من كتائب العودة
المحسوبة على ذات الحركة. وفي ذات الوقت كان نحو (300) عضو من الحركة في
قطاع غزة يعلنون استقالتهم منها في مؤشر على تدهور سريع تشهده الحركة على
صعيد بنيتها التنظيمية.
هذه التطورات الخطيرة دفعت الكثيرين لإدراك حجم الفراغ الذي تركه غياب ياسر
عرفات على تماسك ووحدة الحالة الفتحاوية. فالحركة كانت تحفل، حتى في ظل
وجود عرفات، بالكثير من الانقسامات والاستقطابات والتجاذبات داخل صفوفها.
فمن تباين في الرؤى والتوجهات السياسية، إلى التنافس على النفوذ والمصالح،
إلى صراع الأجيال بين المراتب والمستويات القيادية وتوجيه الاتهامات
المتبادلة بين جيل الشباب وبين جيل الشيوخ أو الحرس القديم، إلى نزاع بين
جماعة الداخل "التنظيم" وبين فتح الخارج "جماعة تونس" وفق التسمية المتعارف
عليها في الساحة الفتحاوية.
وبفعل إمساكه بزمام كافة الملفات التنظيمية والمالية والأمنية، كان ياسر
عرفات قادراً باستمرار على احتواء التناقضات الداخلية، وامتصاص الأزمات
التنظيمية التي تعصف بالحركة، وسعى على الدوام إلى حفظ التوازنات بين مراكز
القوى والنفوذ داخل الحركة، وظل "المايسترو" القادر على ضبط الإيقاع،
مستخدماً رمزيته القيادية وكافة أساليب الترغيب والترهيب. لكن ما أن غاب
عرفات حتى فقدت حركة فتح أهم عناصر قوتها ووحدتها وتماسكها الداخلي، وحتى
أطلت الصراعات والانقسامات الداخلية برأسها.
فمحمود عباس الذي خلف عرفات في غالبية مواقعه، لا يملك "الكاريزما"
القيادية، والرمزية التاريخية، وهو بخلاف عرفات، غير قادر على حفظ
التوازنات، واحتواء الأزمات، واستخدام أساليب "الختيار" في استيعاب
الطموحات والتطلعات والرغبات المتناقضة. وفضلاً عن ذلك فإن هناك من يرى أن
"أبو مازن" غير معني كثيراً بالحفاظ على "فتح" قوية يمكن أن تمارس ضده نفوذ
التنظيم القائد. صحيح أن البعض يرى أن ضعف "فتح" ينعكس بالضرورة سلباً على
قوة عبّاس، لكن هناك من يرى أن مشكلة عباس مع "فتح" ربما كانت أكبر من
مشكلته مع حماس.
هاجس حماس
أعضاء مكتب التعبئة والتنظيم الذين قدّموا استقالاتهم، عبّروا بوضوح عن
مخاوف كبيرة من التقدم الذي حقّقته حركة حماس في الأشهر الأخيرة، لا سيما
بعد غياب عرفات، حيث نجحت في تحقيق نتائج متميزة في انتخابات المجالس
البلدية لم يتوقعها أكثر المتفائلين من مؤيدي حماس، وأشد المتشائمين في
معسكر "فتح".
الأعضاء المستقيلون برّروا قرارهم بالاستقالة وعدم انتظارهم انعقاد المؤتمر
العام للحركة المقرر في شهر آب (أغسطس) القادم كي يعرضوا ملاحظاتهم
وانتقاداتهم التنظيمية على الأوضاع الداخلية، بأن انتخابات المجلس التشريعي
الفلسطيني ستعقد قبل المؤتمر العام بعدة أسابيع، وبأن عدم الاستدراك
واستمرار الأوضاع في حركة فتح على ما هي عليه في الوقت الراهن من تراجع
وتدهور خطير، سيؤدي لا محالة إلى فوز حماس بتلك الانتخابات، وقالوا: إن هذا
السبب هو الذي دفعهم للمسارعة بتقديم استقالتهم من أجل قرع جرس الإنذار قبل
فوات الأوان.
مصادر فتحاوية أكدت وجود خلاف وجدل كبير داخل الحركة حول كيفية التعامل مع
انتخابات المجلس التشريعي القادمة في ظل النتائج المتواضعة التي حققتها
"فتح" في الانتخابات البلدية. مصادر الحركة أشارت إلى أن تياراً واسعاً
داخلها يرى ضرورة عدم السماح لحماس بالتقدم على فتح في الانتخابات
التشريعية حتى لو اقتضى الأمر اللجوء إلى تزوير الانتخابات، الأمر الذي
يرفضه تيار آخر في الحركة يرى أن التزوير سيؤدي حال انكشافه إلى إلحاق ضرر
كبير بحركة فتح ومصداقيتها، ويرى هذا التيار أن على الحركة اللجوء إلى
وسائل أخرى للحيلولة دون سيطرة حماس على انتخابات "التشريعي"، عبر تنظيم
صفوف حركة فتح وتجاوز نقاط الضعف التي أتاحت لحماس الفوز في انتخابات
المرحلة الأولى للمجالس المحلية.
أوساط محايدة قالت: إن حركة حماس لجأت إلى سياسة ذكية في التعامل مع معطيات
المرحلة الراهنة أتاحت لها تجنب الكثير من الألغام والمطبات السياسية، وفي
ذات الوقت مكّنتها من حصاد ما زرعته لسنوات طويلة في مجالات مقاومة
الاحتلال والنشاط الاجتماعي والخيري في الساحة الفلسطينية.
تتلخص هذه السياسة، بحسب تلك الأوساط، في التهدئة المؤقتة والمشروطة على
جبهة المقاومة ضد الاحتلال، وفي ذات الوقت اعتماد خطاب سياسي وإعلامي غاية
في المرونة تجاه السلطة الفلسطينية ورئيسها الجديد محمود عباس.
حماس التي رأت أن مرحلة جديدة بدأت بغياب عرفات، تحمل ملامح مغايرة تماماً
لتلك التي سبقتها، أدركت أن رأسها قد يكون المطلوب في المرحلة الجديدة التي
شهدت ضغوطاً إسرائيلية وأمريكية شديدة على قيادة السلطة الفلسطينية الجديدة
لتطبيق الالتزامات الأمنية لخطة خريطة الطريق.
رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل قال صراحة: إن حركته أدركت أن
المطلوب إسرائيلياً وأمريكياً هو إلقاء الكرة في ملعب الفلسطينيين، والدفع
باتجاه تفجير حرب فلسطينية داخلية بين حماس والسلطة الجديدة تضعف الطرفين.
وأضاف أن حركته عملت على إعادة الكرة ملتهبة إلى ملعب شارون الذي يعاني
أزمات داخلية حادة في حزبه وائتلافه الحاكم بفعل الخلافات حول خطة فك
الارتباط.
غير أن ما لم يقله مشعل ولم يكن صعباً قراءته في تطورات الوضع السياسي في
الساحة الفلسطينية، أن النفس الإيجابي وسياسة التهدئة التي اتبعتها حماس
تجاه حركة فتح والسلطة بقيادتها الجديدة، أسهمت بصورة غير مباشرة في تقصير
فترة التماسك الداخلي التي شهدتها حركة فتح بعد غياب عرفات.
فاختيار حماس الانزواء جانباً بعد وفاة عرفات، واتخاذها قراراً بعدم منافسة
"فتح" في انتخابات رئاسة السلطة، ثم اعترافها بعد ذلك بنتائج الانتخابات،
وبمحمود عباس كرئيس منتخب شعبياً رغم مقاطعتها للانتخابات، واعتمادها لغة
خطاب هادئة ودافئة تجاه السلطة، أدّى إلى تراجع الهواجس داخل فتح من خطر قد
تشكله حماس على تفردها بالسلطة، وهو ما أدى بصورة تلقائية إلى تراجع حالة
التحفز لدى فتح وبروز الخلافات الكامنة والصراع على مراكز القوة والنفوذ
فتح إلى أين؟
لا شك أن حركة فتح تمرّ في هذه المرحلة بواحدة من الأزمات الدقيقة والحرجة
في تاريخها. وإذا كان عرفات في كل الأزمات السابقة قد أتقن اللعب في
المساحات الضيقة والمناورة في منطقة حافة الهاوية، وكان قادراً باستمرار
على الخروج بأقل الخسائر من أخطر الأزمات، فإن "فتح" تبدو أمام تحدٍ صعب
ومنعطف خطير قد تكون له انعكاساته الكبيرة على واقع الحركة ومستقبلها إذا
لم تتعامل الحركة بصورة استثنائية، وتتجاوز خلافاتها وتناقضاتها الداخلية.
* رئيس تحرير صحيفة السبيل
|