في فلسطين الآن: نعم الفساد هو القضية
وليس الاحتلال!
:
خالد الحروب
يدافع
رئيس السلطة الفلسطينية عن
الفاسدين الذين يتحكمون في المصير الفلسطيني سياسياً وأمنياً واجتماعياً
واقتصادياً، ويقول هم جزء من الشعب الفلسطيني. يرفض أن يوقع على أية لوائح
قانونية
تقضي بمحاسبتهم محاسبة حقيقية. يقول، ويقول كثيرون معه، إن فتح ملف الفساد
الآن هو
مؤامرة هدفها تحويل الأنظار عن القضية المركزية، وهي الاحتلال الإسرائيلي
والسياسة
الشارونية الراهنة. يقول، ويقول كثيرون معه، إن الفساد مستشر في معظم إن لم
يكن كل
الدول العربية، ومنها تلك التي تنتقد الفلسطينيين، فلماذا لا يتم التركيز
إلا على
السلطة الفلسطينية واتهامها؟ ولماذا الآن بالذات؟
لماذا الآن بالذات، هو السؤال
التعجيزي الفارغ من المعنى لأنه يطلق وسيطلق في وجه كل من يطالب بالتغيير
ومحاربة
الفساد في كل "آن". ففي كل وقت وفي كل "آن" هناك "ظروف حساسة" تمر بها
القضية
تستوجب عدم فتح هذا الملف أو ذاك والتركيز على قضية الاحتلال الإسرائيلي
والعدو
الرئيسي. هو نفس التسويغ الذي كلف الشعوب العربية أثماناً باهظة في سكوتها
على
أنظمتها لأن "الوقت" غير مناسب للثورة عليها واقتلاعها من الجذور. على
العكس من ذلك
تماماً، إن "الآن"، فلسطينياً، هو فعلاً الوقت الضاغط الأكبر لفتح ملف
الفساد
الأسود وعدم إغلاقه من دون محاسبة كل الرؤوس الكبار مهما كبرت في المسؤولية
والمنصب. فهذا الملف البشع هو الذي حطم ويحطم أي إنجاز فلسطيني على صعيد
القضية
الرئيسية والصراع مع إسرائيل. فلا يمكن أن يُدار صراع مع طرف متوحش وشرس
مثل
إسرائيل يعرف أدق تفاصيل الصف الفلسطيني وتركيبته القيادية واستشراء الفساد
فيها،
ونقاط الضعف، والرموز الرخيصة التي بالإمكان شراء ذممها، وأن يتحقق أي
إنجاز أو نصر
مهما كان ضئيلاً. إننا نخدع أنفسنا عندما نحول أبصارنا نحو إسرائيل، ونقول
علينا أن
لا ننشغل بالقضايا الهامشية التي ستستنزف الجهد والطاقة اللذين يجب أن
يوجها إلى
الصراع مع إسرائيل. عندما يتخذ الفساد شكلاً سرطانياً، لا يعود بالإمكان
تحقيق أية
خطوة فعلية على الجبهة الأهم، فالجسد المنهك لا يتحرك، فإما أن يتم استئصال
السرطان
منه أو يموت.
الفساد في السلطة الفلسطينية وصل حداً لا يمكن السكوت عنه.
فما نشرته الصحف من مقتطفات من ملف الفساد المطروح للنقاش والبحث أمام
المجلس
التشريعي الفلسطيني، يُشعر أي فلسطيني أو عربي أو مؤيد للقضية الفلسطينية
بالمرارة
والحنق. هناك مئات التهم موجهة إلى قيادات يُفترض أن تكون على رأس مشروع
الصراع مع
إسرائيل تتضمن الاستيلاء على ملايين الدولارات على حساب مئات الألوف من
فقراء
فلسطين. هناك تهم بـ"البلطجة" يقوم بها مسؤولون أمنيون في قطاع غزة والضفة
الغربية
يكون ضحاياها مواطنون لا حول لهم ولا قوة، تتم مصادرة أموالهم أو ممتلكاتهم
أو
مصانعهم لأن المسؤول المعني يريد أن يشاركهم فيها من دون وجه حق. هناك تهم
لمسؤولين
باغتصاب القاصرات واستخدام نفوذهم ومناصبهم لإشباع رذائلهم وبذاءاتهم عن
طريق
ابتزاز الفقيرات أو النساء من أية شريحة بما فيهن زوجات الشهداء. هناك تهم
شبه
مثبته لمسؤولين فلسطينيين في أعلى مستويات السلطة تتضمن استيراد وتوريد
الأسمنت من
مصر وتوريده إلى الشركات الإسرائيلية التي تبني جدار الفصل العنصري وتبني
المستوطنات. هناك تهم بالاتجار بالمخدرات والحشيش والخمور والإثراء الفاحش
نتيجة
ذلك، والقيام بكل تلك الصفقات من مكاتب المسؤولين الذين لا همَّ لهم سوى
نفخ جيوبهم
بالمال الفاسد والمفسد. هناك تهم بوجود علاقات مريبة ومشبوهة بين مسؤولين
أمنيين
وزعماء المستوطنين في قطاع غزة، تتضمن تلك العلاقات السماح لعناصر فلسطينية
تابعة
لهذا "الزعيم الأمني" أو ذاك بالدخول إلى المستوطنات والتبادل التجاري
الأسود مع
المستوطنين وتزويدهم بما يريدون. هناك تهم باستشراء التعيينات غير
القانونية لأفراد
لا يستحقون المناصب، مديرين أو نواب مديرين لمؤسسات غير حاصلين إلا على
الثانوية
العامة لأنهم مدعومون من قبل هذا المسؤول أو ذاك، بينما تنتشر البطالة في
صفوف حملة
الدكتوراه ممن تنطبق عليهم مواصفات المنصب ذاك أو الوظيفة تلك. هناك تهم
لمسؤولين
عينوا زوجاتهم (الأولى والثانية في بعض الحالات!) وأبناءهم وأبناء عمومتهم
في وظائف
لا يستحقونها وعلى الورق فقط حيث يستلمون الرواتب المجزية وهم في بيوتهم،
بل إن
بعضهم يعيش خارج فلسطين أصلاً. هناك تهم وحقائق، يتمنى المرء ألا تثبت،
تحدد
مسؤولين وأسماء كباراً ممن لهم علاقات وطيدة مع شبكات العملاء، حيث سهلوا
لهم
تحركاتهم مقابل رشوات كبيرة. ومعنى تسهيل تحركات العملاء هو تزويد أجهزة
الأمن
الإسرائيلي بمعلومات أكثر وأدق عن تحركات القيادات والعناصر الفلسطينية
المخلصة
لاغتيالها والقضاء عليها.
كل هذا وغيره كثير مما تقشعر له أبدان المخلصين
لا دخل لإسرائيل فيه، ليس دفاعاً عنها، بل لقطع الطريق على أي تعذر تافه أو
تهرب من
المسؤولية. بل حتى لو فعلت إسرائيل كل ذلك وسهلته وساهمت فيه فإنها لا
تلام، فهي
العدو الواضح الملامح الذي لا يتوقع منه غير ذلك. لكن الطرف الذي لا يمكن
أن نتوقع
منه التغافل عن ذلك وغض النظر عنه وتجاهله هو السلطة الفلسطينية ومجلسها
التشريعي
وكل أجهزتها. لا يمكن لأي مشروع وطني فلسطيني أن يحقق أي نجاح معتبر وهذا
الفساد
يضرب أطنابه على الواقع الفلسطيني جملة وتفصيلاً.
أي تبرير لما يحدث مرفوض،
وأي تبرير أو تسويغ لمحاولة الإفلات من فتح ملف الفساد الفلسطيني يجب أن
يرفضه
المخلصون في الصف الفلسطيني والعربي. فالفئة الفاسدة في أوساط السلطة
الفلسطينية
شوهت القضية الفلسطينية، وشوهت الوجدان الفلسطيني، وشوهت الحلم الفلسطيني،
وشوهت
صورة الفلسطيني في العالم. عندما نسأل كثيراً من أنصار القضية الفلسطينية
من
الغربيين الذين يذهبون إلى فلسطين لأول مرة عن انطباعاتهم، نجد أن أكثر
الانطباعات
سوءاً هي تلك التي تتعلق بالمسؤولين. يقولون لنا: إنهم يعيشون حياة باذخة
لا تناسب
حياة مجتمع يعيش تحت احتلال وحشي. يقولون: كيف يمكن أن يضحي أو يمكن توقع
التضحية
من قبل قيادي يحيا في قصر منعم ويتنقل بعدة سيارات فارهة مع أتباع ومرافقين
وكأنه
شبه ملك؟
أولوية الأولويات الآن هي تنظيف البيت الفلسطيني، وإعادة البهاء
للفلسطيني الثائر والمناضل الذي كان وما زال يقدم أغلى ما يمكن من أجل
فلسطينه.
المطلوب هو تقديم صور المخلصين الذين هم في الصفوف الخلفية يقارعون العدو
بإخلاص
منقطع النظير ولا تقع عيونهم على مكتسبات ومنجزات شخصية. المطلوب إعادة
هيكلة الجسم
الفلسطيني قيادة وقاعدة على أساس نظافة اليد والسلوك، لأنه من دون أن يكون
الجسم
سليماً وصحياً فإنه لن يقوى على مصارعة عدوه.
العدد 10643
بتاريخ 08/25/04
وجهات نظر – صحيفة الإتحاد
|