ياسر عرفات و''جمهورية الفكهاني''

بقلم: د. شاكر النابلسي

ما هي أوجه الخلاف بين محمود عباس المكلف بتأليف الحكومة الفلسطينية وبين ياسر عرفات؟
وما سبب تعثر تشكيل هذه الحكومة، وتهديد عباس بالاستقالة، وعرفات يعلم بأن الشأن الفلسطيني والمستقبل الفلسطيني الآن متوقف على تشكيل هذه الحكومة كما تقول أوروبا وكما تقول أمريكا؟
إن الأسباب واضحة لكل من له عقل يعي، وفكر يعمل، وبصيرة تقشع؟
إنها خلافات على الأتباع و (الأزلام) والمنتفعين!
فما زال ياسر عرفات الزعيم الفلسطيني يدير الشأن الفلسطيني الآن كما كان يدير دكان "جمهورية الفكهاني" في بيروت قبل العام 1982، معتبراً أن فلسطين "بيّارة حمضيات" أو "عِزْبة" من العِزَب كما هي حال باقي العالم العربي مع حكامه الآخرين.
بمعنى أن عرفات ما زال هو فلسطين، وهو الثورة، وهو الأب، وهو القائد، وهو القابض على المال، وهو الصارف للمال، وصوره وحدها هي التي تُرفع في المسيرات والمظاهرات والمهرجانات، وهو الذي لا تنطق فلسطين إلا إذا تكلم، ولا تتنفس إلا إذا تنفس. وهو (الكل بالكل) على الطريقة العربية في الحكم، وكأنه كأي شيخ قبيلة مُطلق، وبيده مَطْرق، لا نسمة تعبر إلا عندما يشير ويشاء.
لم يع عرفات حتى الآن أن هناك أكثر من عشرين عاماً تفصل بين "جمهورية الفكهاني" في بيروت وبين الدولة الفلسطينية المزمع اقامتها الآن، وأن الدنيا قد انقلبت رأساً على عقب في هذه الأعوام، وأن "جمهورية الفكهاني" غير "السلطة الفلسطينية"، وأن بيروت غير رام الله.
لم يع عرفات حتى الآن أن "جمهورية الفكهاني" في بيروت كانت تستند إلى قوى عظمى اختفت، وإلى أنظمة عربية زالت، وإلى أحزاب سياسية بادت وانقرضت.
لم يعد عرفات يعي بأن السياسة هي معرفة موازين القوى الآن معرفة تامة وكيفية التعامل معها، وهو الفصيح (اللمّيح)، وبأنها لم تعد خُطباً طنّانة، وبيانات رنّانة، في المخيمات، وفي المهرجانات الشعبية، كما كان عليه الحال في بيروت قبل العام 1982.
لم يع عرفات حتى الآن أنه يتعامل مع قوة عظمى واحدة وحيدة فقط في العالم، وعليه أن يسمع جيداً ما تقول، وما ترسل من مراسيل واشارات، وهو اللبيب، كما يقول عنه أتباعه.
أبو عمار ما زال يقود العمل الفلسطيني بتقليدية وبعشائرية وبزمرتية وبعقلية عتيقة، ولا أحد يجرؤ أن يحاسبه، أو أن يسأله أو يعترض عليه، انطلاقاً من أبوته للعمل الفلسطيني.
لقد أصبح عرفات نبي الثورة الفلسطينية الذي لا يُعاتب ولا يُحاسب. وهو يريد من حكومة محمود عباس أن تكون خاتماً سائغاً في اصبعه، كما كان زعماء فصائل المقاومة الفلسطينية ومنظمة التحرير طيلة أكثر من أربعين عاماً مضت. كما يريد من محمود عباس أن يكون موظفاً في مكتبه، لا رئيس وزراء حكومة فلسطينية.
وأبو عمار معجب بالزعيم الأفريقي الرمح نيلسون منديلا اعجاباً شديداً، ويتماهى به مماهة دائمة، ويُلقِب نفسه بمنديلا الفلسطيني، فلماذا لا يفعل كما فعل ذاك الرمح الأفريقي الخالد، ويفسح المجال أمام الدماء الفلسطينية الجديدة، لكي تتدفق في الشرايين الفلسطينية المتصلبة والناشفة؟
وأبو عمار رغم حبه الشديد لمنديلا، ورغم رغبته في أن يُخلّد كما خُلّد منديلا، إلا أنه لا يسير على خطى منديلا العظيم في افساح المجال لجيل جديد من القياديين كما فعل منديلا.
ورغم أخطاء عرفات المدمرة والقاتلة في السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم والأمن وخلاف ذلك، من خلال ممارساته السابقة كرئيس للسلطة الفلسطينية، إلا أن الشعب الفلسطيني الطيب والمكافح والقوي والصابر يغفر لأبيه ياسر عرفات كل هذه الأخطاء، وما زال يعتبره رمز فلسطين وكفاحها المجيد.
ورغم أن الشارع الفلسطيني يعرف الفساد والتسيب والمحسوبية و(الفلتان) الاداري والأمني الذي قاد السلطة الفلسطينية إلى ما هي فيه الآن، إلا أن الشعب الفلسطيني ما زال يعتبر عرفات هو الأب الروحي لفلسطين، ويصلّي من أجله دائماً.
وإذا كان أبو عمار يحب فلسطين فعلاً أكثر مما يحب نفسه كما قال عدة مرات، فليفسح المجال أمام زعامات فلسطينية شابه لكي تتولى القيادة، وكفاه أربعين عاماً من السير على البساط الأحمر في عواصم العالم، والظهور أمام الأضواء البراقة بزي المارشالية.
وإذا كان ياسر عرفات يحب فلسطين والشعب الفلسطيني فعلاً كما يقول، فعليه إلا يفوّت الفرصة الذهبية المتاحة الآن لتسوية القضية الفلسطينية، كما فوّت غيرها من الفرص السابقة، وأضاع على الشعب الفلسطيني بناء مستقبله.
وإذا كان ياسر عرفات يحب الشعب الفلسطيني، ويحب فلسطين، فليضحِ من أجلها، وليكتفي بأبوة هذه الشعب، وأبوة هذه الثورة، وأبوة هذا النضال، وليعطي الراية لمن هو أحق منه بها جسدياً وعقلياً وصحياً وثقافياً وحنكة سياسية، ووعياً بالمتغيرات السياسية الدولية.
إن حكام العرب غير قادرين على قول هذه الحقيقة لعرفات، حتى لا تُقال لهم غداً. ولكن أمريكا وأوروبا تبعث بإشارتها لأبي عمار، وأبو عمار (مطنّش)، ومشغول بمناكفة محمود عباس على بعض الحقائب الوزارية، ومحاولة تثبيت (أزلامه) في المواقع السيادية، وكأنه ما زال في دكان "جمهورية الفكهاني" في بيروت!
الشعب الفلسطيني يجوع كل يوم، ويتشرد كل يوم، و يموت كل يوم، والرئيس عرفات مشغول بمحاولة تثبيت (أزلامه) في وزارة محمود عباس.
أبو عمار ما زال يدير السلطة الفلسطينية (الدكان) بعقلية أصحاب البقالات الصغيرة، وليس بعقلية السياسي المحنك، ورجل الدولة الحكيم العصري من طراز رفيع.
لقد آن لياسر عرفات أن يتخلّص من عبادته لشخصه ، والوقوف طويلاً أمام المرآة كل يوم، والتشبت بالكرسي، وهو لا يعلم أنه أصبح أكبر من هذا الكرسي، وأنه يحشر نفسه حشراً وقصراً فيه.
آن لعرفات أن يترجّل، ويُسلّم المفتاح، ودفتر الشيكات، ورصيد السلطة الفلسطينية في البنك والمسجّل باسمه، والختم الفلسطيني، والراية الفلسطينية للجيل الجديد من القيادات الفلسطينية الواعية. فهو لم يعد قادراً جسمياً وعقلياً وصحياً وفكرياً على إدارة صراع مرير كالصراع الفلسطيني.
لقد أخذ ياسر عرفات مجداً وشهرة ومنصباً من القضية الفلسطينية أكثر مما أعطاها، وحان الآن لكي يُسدد كثيراً من الدين الذي عليه للقضية الفلسطينية. والسداد الأكبر يكون بأن يفسح الطريق ويفتح النوافذ لدخول هواء جديد للغرفة الفلسطينية التي ما زال محجوزاً فيها هو وفلسطين، في رام الله، منذ أشهر طويلة.
فمتى يكون عرفات هو الاستثناء الوحيد بين الحكام العرب الذي لا يخرج من القصر إلا إلى القبر؟
 

الدكتور شاكر النابلسي:كاتب، ورئيس الرابطة الجامعية الأميركية.
email : shakerfa@worldnet.att.net

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع