حزيران 2004

فضيحة الإسمنت ... لم تنته

بقلم: مهند عبد الحميد*

إن أخطر ما قد يواجهنا، هو الوصول الى مرحلة نكون فيها غير قادرين على التغيير والاصلاح الذاتي من الداخل، كما هو حال معظم المجتمعات العربية التي تعطلت فيها ديناميات التغيير الذاتي، وأصبحت بانتظار التغيير من قمة سي آيلاند الأميركية أو ما يماثلها في قادم الأيام. البعض يعتقد أن الأصلاح يقود إلى الانهيار كما حدث مع بيروسترويكا غورباتشوف في الاتحاد السوفياتي السابق. ويمكن القول أيضاً، إن الاصلاح من الخارج يقود الى الانهيار كما حدث في العراق، كما أن إعادة البناء من الخارج متعذرة وغير ممكنة أيضاً، لأنها تفتقد لديناميات التطور الطبيعي الذي يلبي حاجة البلد.

وفي وضعنا الفلسطيني، وصلت بعض النخب والفئة المحبطة من المواطنين الى نتيجة مفادها أن الاصلاح غير ممكن. وهذا التقدير يعود لسيادة مفهوم المؤامرة والرؤية المغلوطة للتغيير، فهؤلاء يريدون أن تبادر الجهات المسؤولة عن الوضع المطلوب اصلاحه أو تغييره إلى معاقبة ومحاسبة الذات والقيام بخطوات التغيير طوعاً وتبرعاً، كأن تسمح لأكثرية المواطنين بصرفها عن مواقعها وامتيازاتها. إن هذا الاعتقاد مخالف لطبيعة الأشياء وقوانين الصراع. فطالما لم تبادر وتعمل الفئات التي لها مصلحة حقيقية في التغيير الحقيقي فإن التغيير لن يحدث، ولن تبادر الفئات والأفراد "المنغنغين بالإمتيازات" والذين لهم مصلحة فعلية ببقاء الوضع على حاله،بتحريك أي ساكن يزعزع مصالحهم. بل سيدافعون عن هذا الوضع، ويقاومون كل محاولة لتغييره.

لقد قدم لنا المجلس التشريعي مبادرة فائقة الأهمية، عندما حمّل مسؤولية تسريب الاسمنت المصري للسوق الاسرائيلية الى وزير الاقتصاد الوطني، وأحال ملف الشركات المتهمة إلى النائب العام. والسؤال ماذا بعد؟ هل يمكن محاكمة المتهمين، أم سيتم وضع قضيتهم في الحفظ والصون، بانتظار يوم الحساب الملائم؟ واحتفاظ النائب العام بحق الرد في المكان والزمان الملائمين، كما تقول الأنظمة العربية عندما كانت تتعرض لعدوان اسرائيلي، وهذا يعني أنه لا يوجد رد. قد تبدأ القضية، وقد تنتهي، وللبداية والنهاية مسارب ومنعرجات لا حصر لها، غير أن صمت وانتظار الرأي العام وقوى المجتمع المدني هو أقصر الطرق لطي الصفحة، والاكتفاء بوعود تتعهد في أحسن الاحوال بعدم تكرار الإهمال "غير المقصود" والهفوات المستقلة عن "الاخلاص الثابت" وغير القابل للتصرف. مقابل ذلك فإن تدخل كل من لديه مصلحة ورغبة في مكافحة الفساد سيقود الأمور الى المحاسبة والتغيير. كيف تفاعلت هذه القضية في صفوف الشعب الفلسطيني وقواه السياسية والاجتماعية.

ما زال اللاتفاعل سيد الموقف، باستثناء بعض المبادرات كصدور بيانين من "فدا" والجبهة الديمقراطية تطالبان بالمحاسبة ووقف العبث بالمصلحة الوطنية. ونشر بضعة مقالات في الصحف المحلية. وكان التطور الأهم صدور عريضة بعنوان "معاً للتصدي للفساد" تطالب باستكمال التحقيق في صفقة الاسمنت ومعاقبة كل من يثبت تورطه، من أجل إعادة الهيبة الى القضاء، والمساهمة في اصلاح الوضع الداخلي الفلسطيني، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وعن الاستقلال الوطني. لماذا يغلب الطابع السلبي حتى الآن؟ لأن الأكثرية يائسة من امكانية التغيير والاصلاح، بعد أن فقدت عناصر واتجاهات متزايدة من السلطة- من وزراء وموظفين كبار- مصداقيتها. وعندما يفقد المواطن ثقته بالسلطه، والثقة بالنسبة للمواطنين مطلقة وليست نسبية، فالمواطن إما أن يمنح ثقته بالكامل وإما أن يسحب ثقته بالكامل ولا يوجد حل وسط. ولهذا الموقف أساس في الواقع، في أداء السلطة وفي الإثراءات غير المشروعة وتحالف المصالح الخاصة والانانية، وفي الثقافة والقيم السائدة ومستوى الحرية الاجتماعية. اضافة الى أن الوضع الفلسطيني جزء لا يتجزأ من المجتمعات العربية المقموعة والمحبطة من امكانية التغيير. ولكن ثمة اختلاف لمصلحة الواقع الفلسطيني، فنحن نعيش في طور انتقالي ما زالت القضية الوطنية فيه غير محلولة، وبالتالي فإن السلطة والديمقراطية ما زالتا في طور التشكل وتحتملان تطوراً ايجابياً، وخاصة إذا ما تم ربط النضال الوطني بالنضال الديمقراطي والاجتماعي. لذا فإن هذه المعركة وما يتبعها سترسم مستقبلتا الديمقراطي لمدى زمني طويل.

لقد نجحت لجان مقاومة التطبيع في مصر بوقف الاستيراد الاسرائيلي المباشر من الاسمنت المصري. ونجح المجلس التشريعي الفلسطيني في اتاحة الفرصة للمواطنين بالتدخل. وبطرح المزيد من الأسئلة والمطالب وتوضيح الملابسات، بمعنى آخر، قدم المجلس التشريعي للمواطنين امكانية للمشاركة في القرار، فهل يمكن اغتنام هذه الفرصة؟ إنه التحدي الأكبر الذي يواجه المجتمع المدني الفلسطيني وقواه السياسية على نحو خاص؟ ويواجه الاعلام والاعلاميين الذين يستطيعون تفعيل هذه القضية انسجاماً مع دورهم في الرقابة والمساءلة وتزويد المواطنين بالمعلومات. وهنا يمكن طرح القضايا التالية:

أولاً: لماذا ارتكبت وزارة الاقتصاد أخطاء ومخالفات تتناقض مع دورها ومع البديهيات التي من المفترض أن تتوفر في مؤسسة بمستوى وزارة أو حتى أقل من ذلك، وكأن الوزارة مزرعة خاصة بالافراد الذين تحكمهم مصالحهم الخاصة في مواجهة مصالح المجتمع. ومن أبرز الأخطاء:

- صلاحية إذن الاستيراد الذي "تمنحه" الوزارة غير محددة بتاريخ مكتوب ومعتمد.
- الشركات غير ملزمة بتزويد الوزارة بنسخة من فواتير الادخال والضريبة المضافة.
- حاجة السوق الفلسطينية من السلع غير محددة، "لأن حاجة الشركات والمتنفذين للربح غير محددة بسقف".
- الكوتة المخصصة للسلطة الوطنية باسعار تضامنية – مع الشعب الفلسطيني – تقدم الى الجانب الاسرائيلي "بدون تضامن".

إن هذا النوع من الأخطاء التي أثبتها تقرير المجلس التشريعي يمس جوهر عمل ودور الوزارة وخاصة في مجال بناء اقتصاد وطني. فلماذا تبقى الوزارة على حالها؟ ولماذا تقبل الحكومة باستمرارها؟ وما هو الضمان في عدم ارتكابها مخالفات أخرى في سلع أخرى؟

ثانياً: صحيح ان المجلس التشريعي لم يستطع تقديم الأدلة على الاستخدام الاسرائيلي للأسمنت في بناء الجدار المدمر لحياة عشرات الالاف من المواطنين، ولكن لماذا لم يتم التوقف أثناء تسويق سلعة استراتيجية كالاسمنت لاسرائيل عند أغراض الاستيراد وخاصة أن اسرائيل تشهد مشاريع ضخمة كبناء سور الفصل العنصري وبناء عشرات الآلاف من الوحدات السكنية في المستعمرات الإسرائيلية؟ واللياقة السياسية الفلسطينية المتقدمة جدا تسمح باكتشاف العلاقة بين حاجة السوق الاسرائيلية والاستيراد المفتوح للاسمنت.

ثالثاُ: تحدثت بعض الصحف المحلية وخاصة الالكترونية عن دور بعض المتنفذين في السلطة بمستوى وزراء في تسهيل تسريب الاسمنت للسوق الاسرائيلية وفي ابرم الصفقات. فماذا تقول الحكومة عن هذه الاتهامات؟ ولماذا توخت الصمت.

* كاتب فلسطيني يقيم في مدينة رام الله.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع