دلالات استعراض حائزي "نوبل" في البتراء
بقلم: عوني فرسخ
الاستعراض المسرحي الذي قدمه خمسة وعشرون من حائزي جائزة "نوبل" في البتراء ، وما حواه بيانهم الختامي ، لم ير فيهما الكثيرون غير النشوة البادية على وجوه أركان الصهيونية ، اليهود منهم وغير اليهود ، وعناق محمود عباس الحميم لأولمرت الذي لم يعانق بمثله فاروق القدومي أو أي من أبوات فتح ولا نقول اسماعيل هنية ورجالات حماس والجهاد الاسلامي . وبذلك اكتفى هؤلاء الناظرين من المشهد بما اعتبروه دلالة على ما بلغه الصهاينة من قدرات ومكانه ، وما انتهى اليه عرب التسوية من هوان على النفس والآخرين . ولكن العرض المسرحي والبيان الختامي لحائزي "نوبل" ينطويان على أكثر من دلالة عند من لا تقف رؤيته للمشهد عند قمة جبل الجليد الطافية على سطح المحيط .
وأول الدلالات المسكوت عنها أن الاستعراض المسرحي في البتراء ليس أول الاستعراضات المسرحية على الارض العربية وانما هو إحدى حلقات مسلسل استعراضي شاركت فيه قيادات سياسية عربية واعداد متزايدة من رجال وسيدات الاعمال "الملتزمين بالسلام خيارا استراتيجيا ، بدءا من "المؤتمر" الاقتصادي – السياسي الذي عقد في الدار البيضاء قبل بضع سنين وقدم فيه شمعون بيريز فكرته التي ضمنها كتابه "الشرق الاوسط الجديد" الداعية الى دمج اسرائيل في الاقليم العربي بعد نزع هويته القومية . والذي لم يتنبه اليه الذين خطفت ابصارهم مظاهر القوة الصهيونية انه ليس بين دول العالم المعاصرة دولة واحدة تُبذل الاموال والجهود لدمجها قسرا في الاقليم الذي توجد على ترابه سوى اسرائيل . وما كان ذلك إلا ليقين رعاتها الدوليين بقيادة الادارة الامريكية أن المشروع الصهيوني ، مهما امتلك من أسباب القوة الذاتية ووفروا له من اشكال الدعم ، يظل مستقبله مهددا ، لأنه غير طبيعي الدور والنشاة في الاقليم العربي ، وأنه مستحيل بالتالي أن تتوفر له دواعي الامن والاستقرار بدون القبول الشعبي العربي به .
واسرائيل لعلم "الواقعيين" العرب ، المأخوذين بما هي عليه من قدرات وامكانيات ذاتية ، وما تحظى به من رعاية ودعم دوليين ، لا تقف اسباب ضعفها فقط عند كونها مجرد مشروع استعمار استيطاني عنصري مرزوع قسرا رغم ارادة اصحاب الارض الشرعيين التي فرض عليها ، وانما ايضا لكونها آخر مشروعات الاستعمار الاستيطاني في آسيا وافريقيا ، التي عصفت بها شعوب الارض التي ابدعت اولى الحضارات الانسانية . فضلا عن انه مقام على ارض امة عرفت تاريخيا بقدرتها الفذة على دحر الغزاة مهما طال بهم الزمن وتطهير ارضها من رجسهم واستيعاب من تبقى منهم ضمن نسيجها القومي . ومن هنا يكمن سر دواعي قلق الصهاينة ورعاتهم على "امن" اسرائيل ، وسعيهم الحثيث لتأمين مستقبلها ضد احتمالات نهوض امة طالما فاجأت العالم بما لم يتوقعه .
وثالث ما هو مسكوت عنه في العرض المسرحي الذي شهدته البتراء التزوير التاريخي الذي مارسه بعض حائزي شهادة "نوبل" ، وبالذات من أعُطوها باعتبارهم شخصيات ساهمت في اقامة السلام . فالسادة المفروض بامتلاكهم اعلى درجات الشعور الانساني لم يتورعوا عن أن يكونوا مجرد كمبارس في مسرحية صهيونية التأليف والاخراج ، الغاية منها الاسهام في توفير متطلبات امن واستقرار مشروع استعمار استيطاني عنصري باعتراف ابائه المؤسسين ، الذين نصوا في "اعلان الاستقلال" الذي اصدره اول "كنيست" اسرائيلي في 15/5/1948 على أن اسرائيل دولة يهودية ، حقوق المواطنة فيها خاصة باليهود فقط . بل وأنه في الممارسة العملية لم يجر التمييز فقط ضد المواطنين العرب ابناء الارض الشرعيين الذين ارتضوا البقاء في ظل الاحتلال الصهيوني ، وانما أيضا ضد اليهود العرب الذين عملت الاجهزة الصهيونية على اقتلاعهم من موطن آبائهم واجدادهم في اليمن والعراق والمغرب وغيرها من الاقطار العربية ، حيث عاش اليهود لقرون باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من النسيج الوطني العربي ، وتمتعوا بحرية ممارسة حقوقهم الدينية والمدنية والمشاركة في سائر الانشطة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، وبحيث غدت غالبيتهم مهمشة في "الدولة اليهودية" .
ورابع ما هو مسكوت عنه كون الدور المسرحي المستفز الذي قدمه محمود عباس ليس إلا اعادة انتاج للدور المسرحي الأكثر استفزازا الذي قدمه السادات في الكنيست سنة 1977 . وان يعاد المشهد بعد تسعة وعشرين عاما من مبادرة السادات بزيارة القدس المحتلة ففي ذلك شهادة ذات دلالتين : فهي اولا شهادة على عبثية ولاجدوى التنازلات الرسمية العربية ، إذ لم يتزحزح الصهاينة قيد انملة عن لاءات بيغن التي اعلنها ردا على مبادرة السادات . وهي ثانيا شهادة على أن التنازلات الرسمية العربية لم تستجر تنازلا شعبيا ، بدليل اصرار الشعب العربي في مصر على مواصلة رفض الالتزام بالصلح والتطبيع ومجمل تداعيات مبادرات السادات الله يرحمه.
وخامس الدلالات المسكوت عنها ما انطوى عليه البيان الختامي للاستعراض المسرحي من صمت مُصدريه الفاضح تجاه ارهاب الدولة الصهيونية ، وهم لا يجهلون أن السكوت في معرض الحاجة بيان . الأمر الذي يعني اقرارهم الممارسات الصهيونية ، وعدم إحساسهم بمعاناة شعب فلسطين المحتلة ، وتبلد احاسيسهم تجاه عذابات اطفاله وآخر فصولها مأساة الطفلة هدى غالية وهي تندب اسرتها التي مزقتها مدافع الاسطول الصهيوني . وحصر اهتمامهم بإدانة العمليات الاستشهادية التي ما كانت لولا الاحتلال الصهيوني وممارسته اقسى درجات ارهاب الدولة في مواجهة شعب لم يجد مناضلوه غير لحم شبابهم وصباياهم الحي كأداة فاعلة للمقاومة المشروعة في القانون الدولي .
والمسكوت عنه أخيرا أن السادة حائزي جائزة "نوبل" ، كمبارس مسرحية البتراء ، تناسوا تماما أن العمليات الاستشهادية لم تكن موضوع ادانة عندما مارسها "الكاميكاز" الياباني ومن بعدهم الرهبان البوذيون في جنوب شرق آسيا . فضلا عن أن أحدا من العلماء "النبلاء" لم يسأل نفسه أي أكثر اجراما بحق الانسانية ممارسة العمليات الاستشهادية ضد الغزاة المحتلين أم تواطؤ ما يسمى المجتمع الدولي على تدمير المجتمع العربي الفلسطيني ، واهدار حقوق الانسان لما يجاوز عشرة ملايين من ابنائه ، والحيلولة دون تنفيذ القرارات الدولية إلا بما يحقق مصالح اسرائيل . ، والمشاركة في فرض حصار تجويع مواطني الضفة والقطاع المحتلين عقابا لهم لانتخاب من رأوا فيهم الاجدر بتمثيلهم في انتخابات ديمقراطية غير مطعون بها ؟!!!
|