ديبلوماسية محمود عباس ... الكفاح السياسي لا يقوم على
التهذيب والعلاقات
العامة!
بقلم: محمود الريماوي
2005/10/27
في تصريحات لاحقة أطلقها محمود عباس، بعد المؤتمر الصحافي الذي جمعه إلى
الرئيس بوش في حديقة البيت الأبيض، وبعد مغادرته الولايات المتحدة قال
إنه فوجئ
بتصريحات مضيفه عن الدولة الفلسطينية، التي قد تقوم أو لا تقوم قبل نهاية
ولاية بوش
الثانية والأخيرة في العام 2009.
وقال عباس إنه لم يتم التداول في هذا الأمر، في المباحثات مع الرئيس بوش.
وينم
هذا الاستدراك عن ضيق رئيس السلطة الوطنية من تصريحات بوش، التي شكك فيها
في إمكان
قيام الدولة العتيدة بعد أربع سنوات مقبلة، وقد خالف عباس الذي اجتمع
ببوش للمرة
الثانية خلال خمسة أشهر رأي هذا الأخير قائلاً: «إن قيام الدولة ممكن
خلال هذه
الفترة». غير أن هذا الاستدراك لم يفلح في جبر المكسور، فأركان الإدارة
الجمهورية
اعتبروا كلام رئيسهم آخر الكلام، وأنه ليس لديهم ما يضيفونه إلى حديث
الرئيس، الذي
لم يجد ما يعبر به عن تفاؤله في إمكان حل الدولتين، سوى التشيك بهذا
الأمر. وكان
سبق لبوش أن أطلق رؤية تعهد فيها أن تقوم هذه الدولة في العام الجاري
2005، فما أن
باشر ولايته الثانية في مطلع هذا العام حتى تنصل من تعهده، متذرعاً
بصعوبات تعترض
طريق تنفيذ هذا التعهد. لم يتطرق الرئيس إلى ما يحول دون تحقيق «المشروع»
خلال عهده
الذي ما زال في ربعه الأول، بيد أنه أشار إلى ما يفهم منه التأسيس لهذا
المشروع،
إذا لم يتحقق مع اختتام ولايتيه.
غير أن الوقائع والمجريات على الأرض، كما درج المعنيون على القول، تفيد
بأن
التأسيس يجري في اتجاه معاكس وهو سلب أرض الدولة المزمعة، وتأسيس وقائع
استيطانية
كبرى في القدس وحولها، وفي الأغوار بمحاذاة الحدود الأردنية، ومواصلة
بناء جدار
الضم والتوسع في عمق الضفة الغربية. فيما التحفظات الأميركية على
الاستيطان، باتت
منذ أمد غير قصير أشبه بديباجات رتيبة، كالتي يكرر كتابتها معلقون في صحف
غير
مقروءة. إذ أن النشاط الاستيطاني ليس محل إدانة وتجريم، ولا يلقي على
أصحابه أي
تبعات، فيقوم الإسرائيليون كما هو دأبهم على تجاهل هذه الملاحظات
الروتينية، فيما
تعمد الإدارة من جهتها وكعهدها دائماً، إلى غض النظر عن هذا التجاهل. وإذ
تلحظ
الإدارة حقاً عدم تخصيص أي تقديمات أميركية للمستوطنات، فإن الموازنة
العامة
الإسرائيلية، التي تتغذى في جزء منها على هذه الهبات والمنح، تقوم بتحويل
ما يلزم
إلى النشاطات الاستيطانية، فيسع الإدارة في واشنطن التذرع بأنها لا تدعم
المستوطنات، فيما تحرص حكومات تل أبيب على دوام رفع الحرج عن واشنطن،
بحيث يذهب
الدعم من طريق التفافي، كما هي حال طرق المستوطنات، والطرق التي يسلكها
أبناء الضفة
الغربية.
على أن المرء لا يأتي بجديد في ما تقدم ذكره، إذ أن ما يستحق الإشارة
إليه بعدئذ
أن الوضع الفلسطيني قد انتهى على رغم التحسن في الأداء الداخلي: بناء
المؤسسات
الأمنية والمدنية والحد من الفساد، والمضي في تجديد التمثيل بالانتخابات
الرئاسية
والبلدية والنيابية المزمعة... انتقل من النزعة الهجومية المسلحة غير
الناجعة
سياسياً في عهد الراحل عرفات، إلى الأداء السياسي الضعيف في الميزان
الاستراتيجي في
عهد عباس، إذ أن السياسة الموصوفة بالاعتدال وهي حقاً كذلك، تحولت إلى
غاية بذاتها،
بما تحمل من نزعات دفاعية واعتذارية وانتظارية، بدل إدراجها كدينامية
خاصة لتحقيق
أهداف جوهرية، وممارسة الضغط المعنوي والديبلوماسي والسياسي والأخلاقي
على الاحتلال
لإزالة مظاهره وإنهاء وجوده، الذي طال العهد عليه. كان من المفيد وقف
عسكرة
الانتفاضة والمظاهر المسلحة، وهو ما دأب محمود عباس على التمسك به، غير
أن الانكفاء
المسلح وشبه العسكري، وكما تدل النتائج يظل قاصراً إن لم يقترن بأداء
سياسي هجومي،
يضع الطرف الآخر في موضع المدعو للوفاء بتنفيذ التزامات محددة، وبما
يحرمه من
التلاعب الدائم بالوقائع والألفاظ، وانتحال دور الضحية الذي يزعم الدفاع
عن الذات.
فتمضي على سبيل المثال شهور وفصول يتواتر فيها الحديث عن التحضير لاجتماع
يضم
عباس وشارون، ويختلق هذا الأخير شتى الذرائع والتعليلات، للتهرب من مجرد
عقد اجتماع
مع ممثل الطرف الآخر. ويقيناً أن شارون لا يتمنع لمجرد أنه غير راغب في
رؤية عباس
والاجتماع إليه. إذ ان الأمر أبعد من ذلك، هو إضفاء ظلال ثقيلة ليس فقط
على أهلية
الطرف الآخر وجدوى الاجتماع إليه، بل على وجوده السياسي والمادي، وبما
ينسجم مع
عقيدة صهيونية تقليدية تنكر وجود الطرف الآخر، وتصوره على أنه تجمعات
سكانية انعقد
وجودها بالصدفة في مكان ما.
يسعى الطرف الفلسطيني مرة تلو المرة لمثل هذه اللقاءات لإبراز حسن
النيات، غير
أن ممثلي السلطة يغفلون عن التصريح بأن شارون يتفادى هذه اللقاءات. لأن
هذا الشخص
يتفادى في العمق الاعتراف المتبادل بين الجانبين، وما يمكن أن ينطوي عليه
هذا
الاعتراف من التزامات واستئناف ما سبق الاتفاق عليه والتقيد به. كما
يغفلون أن
السيد شارون، وهو يتجنب هذه اللقاءات ويشيح بوجهه الصبوح عنها، إنما يضمر
إسقاط
خيار التفاوض، ذلك أنه معني بأمور أخرى هي تكريس الوقائع على الأرض
المحتلة، وإبقاء
يده هي العليا في التحكم بمجرى الحياة اليومية لأبناء الضفة، باجتياح هذه
المنطقة
واستباحة تلك، واختطاف من يشاء من البيوت والشوارع، والقيام بعمليات
إعدام ميدانية
أمام الملأ، فتصبح السلطة في أنظار الجمهور مجرد وجود افتراضي، على صعيد
القدرات
الإدارية والعملياتية، وتغدو هيكلاً سياسياً خاوياً. إذ يصوغ السيد شارون
سياساته
ويطبقها باحتساب أن لا وجود لها، وأن له أن يقرر وحده وبملء إرادته، إن
كان يرغب في
وقت ما بلقاء رأس السلطة مجرد لقاء أم لا.
وعليه، فمن الواضح أن جملة ما يجرى يقود إلى تصفية وتقويض مشروع الدولة
العتيدة،
ابتداء من سلب أرض هذه الدولة، ومصادرة عاصمتها والتهويد القسري لها
ولمحيطها، ووضع
حدود سياسية عبر الجدار والمستوطنات الكبيرة، والتحكم الدائم في الأجواء
والمياه
الجوفية والحدود.
وجملة هذه الوقائع المتضاعفة والمركبة، هي ما يرسي بيئة جغرافية وسياسية
ومقاليد
سيطرة، تحمل الرئيس بوش على التشكك بقيام دولة الفلسطينيين على أرضهم،
وأوضح دليل
على ذلك تمييزه بين ما يسمى الاستيطان العشوائي وغير العشوائي. بما يفيد
باعترافه
الواقعي بالاستيطان الرسمي الذي بنى ويبني مدناً كبيرة تسور القدس وتتاخم
مدن
الضفة. ويقيناً إن الرد الصالح الذي يعول عليه، لا يكمن في الاعتصام
بالتهذيب وحده
كما يبدر دائماً عن الرئيس محمود عباس، ولا يتمثل الرد الصحيح أيضاً في
الجنوح إلى
عدم التهذيب! إذ أن أصل المسألة يقع في مدى تمتع القيادة الفلسطينية
برؤية صافية،
تمكنها من فك الحصار السياسي والمادي عن شعبها، بوضع الطرف الآخر في موضع
المساءلة
الأخلاقية والمعنوية والقانونية كقوة احتلال غاشمة، كما تضع الأطراف
المعنية أمام
مسؤولياتها الفعلية، فإما أن تضع القوة المحتلة حداً لوجودها غير المشروع
على أرض
الغير، وإما أن تنفلت المواجهات وسائر مظاهر الصراع إلى أمد غير معلوم،
ويدفع
الجميع ثمن هذا الجنون الذي تطلقه السياسات الإسرائيلية الوحشية والمريضة.
إن ثمة محذوراً سياسياً واستراتيجياً يتعين التنبه إليه، وهو ضرورة تفادي
الانزلاق إلى أداء هو أقرب ما يكون إلى بناء منظومة علاقات عامة سياسية،
تقوم على
إبداء النوازع المسالمة المحضة، والسخاء في تفهم التعقيدات والصعوبات
التي تعترض
مساعي الأطراف الدولية، والحرص التام على عدم إغضاب هذه الأطراف وإقلاق
راحتها،
والتهليل لتصريح «إيجابي» يصدر من هذه العاصمة أو تلك، وغض النظر عن
تصريحات سلبية
أخرى.
إن مجمل هذه التوجهات والسلوكيات لا تبني رصيداً سياسياً ولا تعزز الموقف
التفاوضي، ولا تفتح الأعين والمدارك على ما يجرى في أرض الصراع، بل إنها
تقود وكما
تدل الشواهد إلى حصيلة بائسة، إذ أن على السيد محمود عباس أن ينتظر
طويلاً بأن يجود
الرئيس بوش بالدولة الموعودة. بينما التدافع الماثل والتفاعلات القائمة،
تفيد أن
بوش نفسه ينتظر مكرمة ومأثرة من السيد شارون، فيما هذا الأخير لا يحتكم
كما يقول
إلا إلى التوراة وكما يقرأها هو، فهي خريطة طريقه الأثيرة والوحيدة، كما
فاتح
كوندوليزا رايس في زيارة أخيرة لها لتل أبيب. - (الحياة اللندنية 27
تشرين اول
2005)
|