منظمة التحرير .. جدلية التمثيل وحتمية التغيير

د.إبراهيم حمّامي

كاتب وباحث فلسطيني

28/03/2006

خلال العقود الأربعة الماضية من عمر منظمة التحرير الفلسطينية، ورغم الهزات والمطبات التي مرت بها، إلا أنها لم تكن في يوم من الأيام محط جدل وأخذ ورد كما هو الحال اليوم، ولهذا بكل تأكيد أسبابه ومبرراته.

انطلقت منظمة التحرير الفلسطينية بعد مخاض ليس باليسير بقرار من المؤتمر الفلسطيني بالقدس بتاريخ 28/05/1964 وبدعوة صريحة من جمال عبد الناصر، وهو ما ألقى بظلاله حول تبعية المنظمة للنظام العربي الرسمي وحذا بقيادة فتح السرية وقتها لتوخي الحذر ووضع برنامج اسمته (الحركة والكيان المقترح)، أي منظمة التحرير، تمهيداً للسيطرة على هذا (الكيان) وبالتالي القرار الفلسطيني وهو ما تم لاحقاً بانضمام حركة فتح لمنظمة التحرير الفلسطينية والسيطرة على قيادتها حتى الساعة.

محطات وتقلّبات

دون الخوض في تفاصيل الوجود الفلسطيني في الأردن ومعارك أيلول الأسود، ولا في الوجود الفلسطيني في لبنان بين الأعوام 1968 و1982 ومن ثم الانتقال لتونس، يمكن القول أن العصر الذهبي للمنظمة لم يدم طويلاً ويمكن حصره في فترة ما بعد معركة الكرامة التي أعادت الثقة للشعب الفلسطيني بقدراته وعام 1974 الذي شهد أكثر العمليات شدة وشهد أيضاً دعوة عرفات لإلقاء كلمته الشهيرة من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة.

تم استثمار هذا الزخم والدعم الشعبي اللامحدود في شكل مبادرات ومواقف سياسية خفضت سقف المطالب الفلسطينية تدريجياً، وانحرفت عن المباديء والأسس التي قامت عليها منظمة التحرير الفلسطينية، وشهدت دورات المجلس الوطني الفلسطيني المتتالية تراجعاً عن قرارات سابقة كانت قد اتخذتها، وفيما يلي أهم هذه المحطات:

·        رفضت الفصائل الفلسطينية عام 1969 مشروع الملك حسين ومبادرة روجرز، لأنها تتجاهل الأراضي المحتلة عام 1948، ولأنها تقود للإعتراف ب"إسرائيل".

·        أقرت الدورة الثامنة للمجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة بتاريخ 28/02/1972 فكرة جديدة وهي الدولة الديمقراطية العلمانية وهو مايعني قبول اليهود في فلسطين، ورغم أن مثل هذا القرار يتطلب تعديل الميثاق الوطني إلا أن ذلك لم يتم.

·        بعد حرب عام 1973 تبنى المجلس الوطني توجهات جديدة تضمنت إقامة السلطة الوطنية على أي جزء من الأراضي الفلسطينية وتم تعريفها على أنها سلطة مقاتلة تعمل على التحرير، فيما عرف فيما بعد ببرنامج النقاط العشر المرحلي

·        في قمة الرباط العربية (01/08/1974) قرر الزعماء العرب أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني

·        غيرت الدورة الثالثة عشر للمجلس الوطني (012/03/1977) من اللغة المستخدمة فبدلاً من عبارات الوحدة والاتحاد العربي تم استخدام عبارة تعزيز التضامن العربي

·        بعد انتهاء الدورة الخامسة عشر للمجلس الوطني (دمشق 11/04/1981)، ازداد نفوذ ودور اللجنة التنفيذية على حساب المجلس الوطني وأصبحت القرارات محصورة في شخص عرفات.

·        أثناء حصار بيروت أبدى عرفات استعداداَ خطياً لقبول كافة قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية دون استثناء القرارين 242 و338 التي دأبت المجالس الوطنية المتعاقبة على رفضهما

·        الدورة السادسة عشر في الجزائر (14/02/1983) رفضت مشروع ريغان وقبلت قرارات قمة فاس باعتبارها الحد الأدنى للتحرك السياسي

·        11/02/1985 شهد عقد اتفاق عمان بين المنظمة والأردن ونصت أهم بنوده على التمسك بالشرعية الدولية وقبول مبدأ الأرض مقابل السلام والموافقة على مؤتمر دولي تحضره كل الأطراف، كما شهد ذات العام إعلان نبذ الإرهاب من قبل المنظمة!

·        الدورة التاسعة عشر عام 1988: اعلان الدولة الفلسطينية والإعتراف ضمنياً ب "إسرائيل"، والقبول بالشروط والمطالب الأمريكية وهو ما نتج عنه فتح حوار فلسطيني أمريكي بتونس

· 1991مؤتمر مدريد الذي الغى فعلياً المرجعية الدولية وقبل بمرجعية راعيي المؤتمر (الولايات المتحدة وروسيا) ودون تمثيل مستقل للوفد الفلسطيني

·   مفاوضات سرية تنتهي بتوقيع اتفاق اعلان المباديء (أوسلو) في البيت الأبيض بتاريخ 13/09/1993 والذي أسقط كافة المطالب الفلسطينية، وانشاء السلطة الوطنية الفلسطينية بقرار من منظمة التحرير الفلسطينية.

الازدواجية والإحلال: 

كان قرار انشاء السلطة الفلسطينية بعد اتفاقات أوسلو بمثابة عملية تجميد وتحنيط لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبدأ دورها بالانحسار تدريجياً وبشكل شبه مبرمج، وأصبح التعامل الدولي مع السلطة الفلسطينية بدلاً عنها، وأخذت مؤسسات جديدة تابعة للسلطة الفلسطينية تنافس دوائر اختصاصية قائمة في المنظمة في ازدواجية لصالح السلطة، وغابت مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية عن العمل وعن الساحة ولم يبق منها إلا الهيكل الخارجي والاسم وقُلِّصت ميزانيتها حتى باتت كخيال مآتة مهمل لا لون لها ولا طعم ولا رائحة.

عقد المجلس الوطني آخر جلساته المعلنة في شهر نيسان/أبريل 1996بموافقة وتصريح الإحتلال لتغيير والغاء بنود في الميثاق الوطني مما اعتبر المسمار الأخير في نعش المنظمة والثوابت الملتزمة بها، ورغم أن النظام الأساسي للمنظمة ينص على انعقاد المجلس الوطني دورياً كل عام ولفترة انتخابية مدتها 3 سنوات إلا أن هذا النظام تم إهماله وجُدّد له من قبل عرفات أكثر من مرة، وازداد عدد أعضاؤه ليصل لما يقرب من 800 عضو معين لا منتخب، دون فائدة تذكر.

الإزدواجية في الصلاحيات استمرت حتى رحيل عرفات، واستلام محمود عباس زمام الأمور على رأس المنظمة والسلطة، لتبدأ عملية إحلال كامل لمؤسسات السلطة مكان مؤسسات المنظمة، وبدأت بوزارة الشؤون الخارجية وتحجيم صلاحيات الدائرة السياسية لمنظمة التحرير، وكذلك محاولة إغلاق الصندوق القومي الفلسطيني في تونس نهاية عام 2005 وحصر الأموال في يد رئاسة السلطة، وكذلك دائرة شؤون اللاجئين من خلال دعوات التجنيس والتوطين والالتفاف على حق العودة، أما باقي المؤسسات فكان نصيبها كنصيب الدائرة السياسية.

أما اللجنة التنفيذية فأصبحت تحصيل حاصل ولا تجتمع إلا للموافقة على ما يطرحه رئيسها، ولتمرير الاتفاقات والمعاهدات المختلفة، وفي وجود أعضاء انتهت مدتهم الفعلية والقانونية، وصولاً إلى فقدانها للنصاب القانوني مما يضعها قانوناً في حكم الملغية والمنتهية بتغيب أكثر من ثلث أعضائها لأسباب مختلفة ، ومن الجدير التذكير بالمادة 14 المعدلة من النظام الأساسي للمنظمة التي تنص على:

إذا شغرت العضوية في اللجنة التنفيذيةبين فترات المجلس الوطني لأي سبب من الأسباب، تملأ الحالات الشاغرة كما يلي:

أ‌.       إذا كانت الحالات الشاغرة تقل عن الثلث، يؤجل ملؤها إلى أول انعقاد للمجلس الوطني

ب‌.   إذا كانت الحالات الشاغرة تساوي ثلث أعضاء اللجنة التنفيذية أو أكثر، يتم ملؤها من قبل المجلس الوطني في جلسة خاصة يدعى لها خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يوماً.

رغم كل ما سبق لم تتوقف دعوات إصلاح المنظمة وتفعيلها في العلن، ومحاولات تحجيمها على أرض الواقع، خاصة من قبل السلطة الفلسطينية، إلى أن جاءت انتخابات شهر يناير/كانون ثاني 2006 لتقلب الحسابات، وتغير الموازين بفوز حركة حماس، وليعود الحديث عن دور منظمة التحرير الفلسطينية وتمثيلها للشعب الفلسطيني وكونها المرجعية العليا للسلطة، بعد أن غُيّبت تماماً ولسنوات عن أي دور فاعل، لتتحول اليوم لورقة ضغط يتم التلويح بها في وجه حماس، لتحجيم وتقليل سلطتها بعد فوزها، ولتبدأ مرحلة جديدة من الشد والجذب بين الأطراف الفلسطينية المختلفة.

المرجعية والتمثيل

لا يوجد خلاف بين الفصائل الفلسطينية المختلفة أو بين أبناء الشعب الفلسطيني على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي المظلة الكبيرة والبيت الجامع لكل الفلسطينيين، أو هكذا كانت على الأقل، لكن في الوقت نفسه لايخفى على أحد أن المنظمة بشكلها وتكوينها وشخوصها الحاليين لا تمثل الشعب الفلسطيني بأي شكل من الاشكال، في ظل ميثاق مخترق، ولجنة تنفيذية غير قانونية، ومجلس وطني متضخم ومنتهي الصلاحية والولاية، واتفاقات فرضت على الشعب دون الأخذ برأيه، وفي ظل هيمنة وتفرد من قبل حركة فتح وبعض الفصائل التي أطلق عليها البعض اسم الفصائل المجهرية التي لم تستطع تخطي نسبة الحسم في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وبوجود شخصيات يجمع الكثيرون على رفضها لتبنيها مبادرات تسقط حقوق الشعب الفلسطيني.

ومما زاد الجدل هو محاولة فرض المنظمة اليوم كمدخل للإعتراف بالإحتلال وكيانه من خلال الاعتراف بكل الاتفاقات التي وقعتها المنظمة مع الاحتلال، والتي لم يلتزم بها الاحتلال وخرقها ورفضها وتجاوزها، في محاولة لإعادة هيمنة حركة فتح على القرار الفلسطيني كمن يدخل من شباك المنظمة بعد أن خرج من باب السلطة، وأيضاً تجاوز شريحة كبيرة جداً من الشعب الفلسطيني لا ترى أن المنظمة بشكلها الحالي تمثلهم أو تملك التحدث باسمهم، وهو ما عبر عنه مثقفون وعسكريون وأكاديميون وطلاب وفئات أخرى من الشعب الفلسطيني في بيان أصدروه مؤخراً بهذا الخصوص.

إن وحدانية وشرعية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية تنطلق من التمسك بالثوابت والحقوق الوطنية الفلسطينية وعلى رأسها حق العودة إلى الأماكن والممتلكات الأصلية وليس من خلال حلول تلفيقية، ومن اختيار الشعب الفلسطيني الحر والنزيه في كافة أماكن تواجده عن طريق اجراء انتخابات شفافة ونزيهة، ومن خلال إصلاح وتفعيل حقيقي للمؤسسات يكون أولاً بإزالة التداخل بين مؤسسات السلطة والمنظمة، وباستيعاب كافة القوى الفلسطينية بتطبيق ما تم الاتفاق عليه في اتفاق القاهرة عام 2005، وبميثاق وطني يعيد الإعتبار للمباديء التي قامت عليها منظمة التحرير.

مخطط الغاء منظمة التحرير واحلال السلطة مكانها بات وبعد سنوات في حكم المنتهي، وكانت نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة بمثابة إعادة الروح لجسد المنظمة الميت، وفجأة تذكرها من حاول أن ينسيها، لتعود محاولات الهيمنة والتحكم بما تبقى منها لتمرير البرامج التي رفضها الشعب الفلسطيني في الداخل، ويرفضها الشعب الفلسطيني في الخارج.

سيبقى الجدل مستمراً، وسترتفع الأصوات المطالبة بمنظمة تحرير فلسطينية تمثل حقيقة كافة فئات الشعب الفلسطيني، وبالمباديء سابقة الذكر، وحتى ذلك الوقت فإن مبدأ الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني سيبقى موضع شك ورفض خاصة من أبناء الشعب الفلسطيني في الشتات.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع