إقامة دولة في غزة

 

البروفيسور عبد الستار قاسم

من الممكن إقامة دولة فلسطينية في غزة بعد خروج القوات الإسرائيلية إذا أحسن الفلسطينيون صنعا. الفرصة الآن مواتية جدا، وتحقيقها يتعلق بحسن التدبير. أصر العرب وبالتحديد الفلسطينيون ولو نظريا منذ عام 1967 على ضرورة الانسحاب الإسرائيلي دون قيد أو شرط من الأراضي المحتلة مما سيمكن الشعب الفلسطيني من حق تقرير المصير، ومن ثم، من إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. ها هي إسرائيل قررت الخروج بقرار أحادي تاركة الأرض والناس، ودون أن تضع شروطا مسبقة.

 ما دامت الأرض لا تعاني من وطأة الجيوش المحتلة، وشعبها غير مقيد باتفاقيات فإنها بالتأكيد أرض حرة ولشعبها أن يقرر مستقبلها. هذا ليس مجرد منطق نظري وإنما عبارة عن واقع صنعه صمود الشعب الفلسطينية ومقاومته الصابرة. أيقنت إسرائيل مع الزمن أن أعباء احتلال القطاع كبيرة جدا ولا مجال أمامها إلا القيام بتنازلات آيديولوجية متمثلة بأرض إسرائيل الكبرى لصالح واقع ميداني مكلف أمنيا واقتصاديا.

المجال الآن أصبح مفتوحا أمام الفلسطينيين لتشكيل نواة دولة حقيقية ذات سيادة تشكل قاعدة لدولة أوسع مع توسع رقعة الأراضي المحررة. هذا ممكن إن اتفقت الفصائل والقوى الفلسطينية المختلفة في غزة على تشكيل إدارة مؤقتة تمهد لقيام إدارة منتخبة بطريقة حرة بعيدة عن التدخل الأجنبي والضغط الإعلامي المتحيز. هذه الإدارة لن تكون مقيدة باتفاقيات مع إسرائيل، ولن تكون مسؤولة عن الأمن الإسرائيلي أو أمام أي دولة من دول العالم، وستكون حرة في تحديد مساراتها الاقتصادية والثقافية والسياسية وفق إرادة الشعب الفلسطيني. لن تكون مقيدة، على سبيل المثال، بملاحقة الفصائل الفلسطينية التي تقاوم، وغير مضطرة لتغيير المناهج الدراسية وفق الإرادة الإسرائيلية، وغير مكبلة بالأموال الأمريكية، الخ.

من المتوقع أن دولة من هذا القبيل ستكون محاصرة ومخنوقة إلى حد كبير من قبل إسرائيل، لكن الفلسطينيين أمام أمرين: إما دولة حرة محاصرة، أو كيان هزيل يخدم الأمن الإسرائيلي. كفلسطيني، أختار الدولة المحاصرة وأستمر في العمل على فك الحصار. أما الكيان الذي يقف حارسا على مملكة إسرائيل فيفرط بالحقوق ويلحق الأذى بالقضية، وسيبقى أداة طيعة بيد إسرائيل في مختلف نواحي الحياة.

لكن المشكلة التي تواجه هذه الإمكانية تتمثل في موقف السلطة الفلسطينية التي لا ترى في الخروج الإسرائيلي تحريرا للأرض وتطالب إسرائيل بضرورة التنسيق قبل الانسحاب. حصل أواخر عام 1948 أن أعلن الحاج أمين الحسيني الدولة الفلسطينية المستقلة في قطاع غزة، لكن الحكومة المصرية استدعته إلى القاهرة وحجزته، وقامت قوات مصرية بدخول القطاع واعتقال أعضاء الوزارة واقتيادهم إلى القاهرة. أفسدت الحكومة المصرية قيام حكومة عموم فلسطين. الآن يقوم الفلسطينيون أنفسهم بإفساد إقامة الدولة. يبدو أن حكومات العرب لم ترغب عام 1948 بوجود جهة رسمية فلسطينية تضغط دائما باتجاه المساعدة في استعادة الحقوق الفلسطينية، ويبدو أن السلطة الفلسطينية تنضم إلى النادي. المفارقة بين أداء إدارة فلسطينية حرة في غزة وأداء السلطة الفلسطينية سيكون واضحا وحديا. تلك ستعبر عن إرادة الشعب وستتمرد على الكثير من التعليمات الإسرائيلية والأمريكية، وستعمل على حشد طاقات عربية وإسلامية دعما لمسيرة التحرير التي ستتواصل، وهذه ستبقى أسيرة المصالح الشخصية لقادتها الذين يقيدون أنفسهم باتفاقيات لا يمكن أبدا أن تؤدي إلى قيام دولة حقيقية. تلك ستكون حريصة على أموال الشعب وعلى حسن التوزيع، وهذه ستبقى غارقة بالفساد.

ليس من مصلحة السلطة الفلسطينية أن تقوم إدارة حرة في غزة، وإلا كيف يمكن تفسير تمسك السلطة بالتنسيق مع إسرائيل وهي لم تطلبه أصلا؟ تقول السلطة إنها تتمسك بوحدانية السلطة وعلى الجميع بمن فيهم الفصائل الفلسطينية أن تحترم هذا المبدأ. هنا تضع السلطة سلطتها قبل الوطن وقبل الدولة في منطق عربي تقليدي يقول أن الحاكم أولا وأخيرا حتى سارت الأمة نحو الدمار. وهي أيضا تريد تطبيق مقاييس الاتفاق مع إسرائيل على مقاييس التحرير. لقد نزف الشعب الفلسطيني دما وتضحيات جسام لكي يزرع في إسرائيل قناعة التخلي عن الاحتلال، أما السلطة فقد استهانت بكل التضحيات والدماء النازفة للحصول على اتفاق كان من الممكن لروابط القرى أن تحصل على أفضل منه.

وعليه أرى أنه أمام الفصائل الفلسطينية الآن الاتفاق على تشكيل هيئة قيادية من ثلاث شخصيات فلسطينية غزية مستقلة تقوم على شؤون القطاع اليومية وتحضر لانتخابات حرة من حراب الاحتلال. وعلى الجميع بعدئذ احترام النتائج مع ضرورة احترام حق الشعب الفلسطيني في مواصلة كفاحه نحو استرداد كامل الحقوق.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع