الـمطالبة بالقبض مقدماً لعملية غير منتهية بعد!

بقلم: د. رياض المالكي*5/9/2005

راقبنا عبر وسائل الإعلام الـمختلفة خلال الأسبوعين الأخيرين تصاعد حدة الـمنافسة بين فصائل الـمقاومة حول من يستطيع أن يدّعي شرف إخراج التواجد الإسرائيلي الاستيطاني والعسكري من القطاع، ووصلت حدة التنافس أشدها منذرة بقرب الانفجار حول ثمنٍِ لـم يتم جمعه بعد. ولولا تدخل الأصدقاء من خارجنا لتأزمت العلاقات الداخلية إلى وضع كان بإمكانه أن يُعرّض الـمشروع الوطني للتراجع. ولكن كيف كان بمقدور هذه الفصائل وقادتهم الـمضي قدماً في محاولة قطف ثمار لحالة لـم تتشكل بعد، ولوضع لـم تنضج معالـمه؟ كل ذلك فقط من أجل توثيق الادعاء على الورق وتثبيته في عقول البشر وسجلات التاريخ، وكانوا على استعداد لتعريض إنجازات الشعب برمته مقابل تثبيت الادعاء بحقوق البراءة النضالية عبر فرضهم إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي خارج القطاع.

مشكلتنا، نحن الفلسطينيين، أننا لا نرى الواقع على الأرض بوضوح كافٍ، ولا نقرأ الحقائق أو نستشرف الـمؤامرات، ونعتبر أن ما نرغب في رؤيته هو ما يجب أن نراه فقط، ونتجاهل كل ما لا يليق لنا رؤيته. هذا التصرف الانتقائي يوصلنا إلى وضع يختلف جوهرياً عن الواقع الذي نعيشه، ويبعدنا عن تحسس متطلباته، فنعيش الوهم ونحيكه واقعاً، ولو استعراضياً. ومن هنا تبرز مظاهر الخلل وتتعقد الأمور وتُصاب الجماهير بخيبات الأمل بعدما تكتشف أن أغلب ما قيل ويقال ليس له علاقة بالواقع، ويتحول الإحباط إلى ألـمٍ عقلي وجسدي يتفاقم مع الوقت ويتعمق مع الإصرار على اعتماد ما نتمناه واقعاً.

ردود الفعل الفلسطينية الرسمية والحزبية من خطوة إعادة الانتشار أحادي الجانب فاقت كل التصورات، وتخطت كل الحدود. الجميع يعلـم أن عملية التفاوض معهم حول مجمل القضايا العالقة ستأخذ فترة طويلة من الزمن، وقد تمتد لسنوات، خاصة عند الحديث عن معبر رفح أو الـممر الآمن أو الـمطار أو دخول وخروج البضائع والسلع وغيرها. وبعد التجربة الطويلة والـمريرة مع التصريحات الفلسطينية غير الـمؤكدة في غالبيتها والتي تعكس رغبة الجانب الفلسطيني عموماً في تمرير رؤيته أكثر مما تعكسه عن حقيقة الاتفاقيات التي تم التوصل إليها سراً أو عبر التأكيد على استحالة اختراق العوائق الإسرائيلية الـموضوعة أمام التوصل إلى أية اتفاقية حول القضايا العالقة، لـم يعد لدى الكثير من عموم هذا الشعب أية قناعة بما يستمر بقوله الجانب الفلسطيني الرسمي أو الادعاء به، ما دام لا يملك هذا الجانب الفلسطيني القوة على تحقيقه، وما دام غير قادر على تنفيذه على الأرض، رغم رغبته الجامحة في الظهور أمام الجمهور الفلسطيني كقادر على نزع الإنجازات من الجانب الإسرائيلي عبر مقارنته بسابقيه، وهذا ما يفسر معظم التصريحات الفلسطينية الرسمية الـموجهة للاستهلاك الـمحلي، والتي يعمد الجانب الإسرائيلي إلى تمريرها في بداياتها وقبل أن تظهر حقيقة الوضع، وبالتالي تتبخر كل تلك الإنجازات.

الغالبية أصبحت تدرك خطورة الخطوة الأخيرة لشارون بإعادة انتشاره من غزة، والتي تهدف إلى التركيز على قضم الضفة وتهويد القدس. جميع خطواته الأخيرة قبل وخلال إعادة الانتشار، تؤكـد وجود مخططاته الجهنمية التي تستهدف بقية الأراضي الفلسطينية في مقايضة داخلية إسرائيلية لا دخل لنا فيها لفرض السيطرة على الضفة والقدس مقابل الخروج من غزة. وبينما يعزز شارون الاستيطان في "معاليه أدوميم" وفي القدس تحديداً نرى انهماك الفصائل في الاستحواذ على لقب محرر غزة، وكأن الحرية انحصرت في مضائق القطاع وسفوح جباله.

الـمراقب لهذه التطورات يدرك حتماً الفجوة الهائلة التي تفصل ردود فعل الـمواطن العادي من موضوع إعادة الانتشار في غزة عن ردود فعل الفصائل والسلطة، فبينما الأخيرة منهمكة في التحضيرات التي قد لا تتم، وفي الاحتفالات التي قد لا تحدث، وفي الاستعداد للسيطرة على الـمواقع الـمخلاة، بينما عليها متابعة الاستعداد الطويل، نجد الـمواطن يواصل حياته كما هي دون ابتهاج ما دام الحلـم لـم يتحقق، والحقائق على الأرض غير ما يُقال. تجربته في الـمعاناة فاقت زمناً تجربة السلطة وتفوقت عمقاً عن تجربة الفصائل وساعدته في قراءة العقل الإسرائيلي الاحتلالي الذي لن يتغير بسبب تغير شخوص السلطة أو بسبب ماسورة سقطت هنا أو انفجار هناك. على الرغم من ذلك، فهناك أيضاً مِنَ الـمواطنين مَنْ يتعلق بنسمة الأمل في تصريح لـمسؤول، ويبني منه نفق النجاة، على الرغم من اكتوائه به سابقاً. ويتخوف الكثير من الـمواطنين من أن مشمشية غزة قد حلّت وفيها البركة لـمن يتصدر الحدث، وكأن تجربة هدر الـمال العام خلال العقد الأخير لـم تكن كافية، خاصة أن وفرتها هذه الـمرة قد تطال الكُثْر من كبارهم بعد أن تزايدت أعدادهم مؤخراً، والكل منهم يريد أن يقفز إلى القطاع استعداداً للوليمة القادمة.

لا يمكن الأخذ على الجمهور رغبته في الاحتفال بخروج آخر مستوطن وآخر جندي من القطاع، وفي الابتهاج بتدمير الـمستوطنات التي كانت تقف عائقاً أمام حياة عادية في جسم القطاع، ولكن نأخذ على البقية الذين لـم يعودوا يرون الأمور إلاّ عبر منظار إعادة الانتشار، بينما هناك أكـثر مـن ذلك بكثير. نعم يجب أن ننجح في إجراءاتنا لإعادة السيطرة وبسط الأمن والقانون على كل مناطق القطاع، إن أمكن، ويجب أن نُثْبِتَ لأنفسنا قبل أن نفعل ذلك للعالـم الذي يراقب أننا جديرون بحكم أنفسنا دون وصاية أو تدخل أو احتلال، والحكم يعني الاستقلال والحرية للأرض والإنسان معاً. الجهد الـمطلوب هنا يجب ألا يخطف جهودنا عن مواقع أخرى مهمة أو مهمشة من فلسطين، ورغم أهمية إنهاء الاستيطان وإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي حول القطاع وربما خارجه، فهذا لا يعني أن نرحل إلى القطاع، أو نهمل مـا كنا نقوم به سابقاً أو ما استحق منّا عمله كنتيجة مباشرة للواقع الجديد. فقط علينا الاستماع لتصريحات شارون، الذي يأمل بتغيير لقبه من "جنرال إعادة الانتشار" إلى "ملك الضفة والقدس". تصريحاته مدمّرة لكل بارقة أمل في إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة القابلة للحياة على حدود 67، استراتيجيتنا يجب أن تتوجه حول ما يجب أن نعمل من أجل الضفة والقدس، بعد أن تَثّبتَ العمل البرامجي للقطاع بانتظار التنفيذ. وأن تتحول كل الإمكانيات والطاقات واللجان لاستراتيجية عمل مكثّفة ومركزية محورها الضفة والقطاع، بما فيها تشكيل اللجان الـمتخصصة، وإعادة تشكيل اللجان القائمة؛ فالوقت ليس في صالحنا، ولـم يكن في يوم كذلك، وإسرائيل لن تنتظرنا نجهّز أنفسنا لـمواجهتها في معركة القدس والضفة، فهي تستفيد من تفوقها على صعد كثيرة، وتعمل على خلق واقع ضخم لا رجعة عنه قبل أن تضطر للجلوس وللحديث معنا في زمن قادم لا ندري متى سيأتي.

استراتيجيتنا يجب أن تكون شمولية، تستفيد من كل الإمكانيات وتسخّرها لتحقيق الهدف الكبير، دون استثناء لطاقة أو جهد مميّز حتى لو طال الانتظار، لتقتحم هذه الاستراتيجية كل مجالات العمل ضمن برامج وآليات مرتبطة بزمن وخطة، ومراحل تنفيذ متعاقبة ومتوازية، وإشراك الجميع فيها كمنفذين ودعائم نجاح. تحـدٍّ كبير أمامنا، وننتظر من السلطة أن تنتقل للعمل عليه كما انتقلت قبله بنجاح للعمل على استراتيجية القطاع، وإعـادة بنائه.

* مدير عام مركز "بانوراما"- المركز الفلسطيني لتعميم الديمقراطية وتنمية المجتمع.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع