بعث "فتح" من رماد إمبراطورية عرفات
محمد جلال عناية
صحيفة الخليج الإماراتية 6/5/2006
إذا كان هناك من يريدون بعث حركة "فتح" من رماد إمبراطورية عرفات، فعليهم
أولاً تحديد الهوية السياسية ومعايير الانضباط للحركة لا يمكن للعقل
السياسي الفلسطيني أن يرسو على أن هزيمة "فتح" في انتخابات المجلس
التشريعي (25/1/2006) قد هبطت عليها من السماء. وإنما جاءت كعرض لما
أصابت به نفسها، وما أنزله بها الآخرون من إنهاك. وانقياداً لشروط
الموضوعية والشفافية، نحدّد بأن الذي نعنيه ب"نفسها" هو قيادتها
الفلسطينية، وما نشير إليه ب"الآخرون" هو البيئة العربية التي كانت قدر
"فتح"، واختارت الأخيرة أن تتأقلم معها وأن تنصاع لشروطها، إما طواعية
لإشباع طموح القيادة في إحكام سيطرتها وتوسيع نفوذها، أو كرهاً حتى
تتفادى هذه القيادة ما يزعزعها من صدمات بجدران الأشقاء.
لم تتعرض حركة سياسية فلسطينية لاختلاف الروايات حول نشأتها مثل ما تعرضت
له حركة فتح، وذلك لسببين: الأول، هو أن كل من وقع في دائرة الضوء من
قادتها قدم روايته الخاصة لقيام "فتح" لشرعنة سلطته ونفوذه، والسبب
الثاني، هو ميل الباحثين العرب والأجانب لاختيار الطريق السهل باللجوء
للقادة الفلسطينيين، الذين أصبحوا في دائرة الضوء، كمصدر للمعلومات. وسوف
أذكر أسماء شخصيات، ظلت في الظل وأسهمت إلى جانب آخرين في تأسيس حركة
"فتح" في الكويت 1959، ومن هذه الشخصيات يوسف عميرة والكويتي عبدالله
العلي المطوّع، ثم أحمد السعدي وعادل عبدالكريم، وقد انسحب الأخيران من
الحركة في مرحلة مبكرة، حيث طالبا بإقصاء ياسر عرفات بسبب ثقتهما
المفقودة به. وهذان وغيرهما من المؤسسين كانوا ينظرون بحذر لطموح ياسر
عرفات للرئاسة، وبعضهم كان يشك بصلته بالمخابرات المصرية، والخطر في هذا
هو أن معظم المؤسسين من "الإخوان المسلمين" الملاحقين بشدة في زمن
عبدالناصر.
وإلى جانب المؤسسين الذين مرّ ذكرهم والنصير الكويتي المطوّع، كان هناك
حسين الثوابتة، وخليل الوزير، وياسر عرفات، ومحمود مسودي، ومنير عجور.
كان الفكر السياسي الإسلامي هو السائد في عقول أعضاء الجماعة المؤسسة،
الذين انفصل معظمهم تنظيمياً عن "الإخوان المسلمين" لأنهم لم يبادروا إلى
الجهاد لتحرير فلسطين، وهذا سمعته بنفسي من خليل الوزير وسعيد المسحال
ومعاذ عابد وغيرهم. وكانت فتح في بدايتها تضمر عداء مكتوماً للتيار
القومي ممثلاً بعبدالناصر والبعث، لذلك بدأت العمل بسرية شديدة تحت
الأرض، ولم تضع برنامجاً سياسياً معلناً ينم عن اتجاهها السياسي. وكانت
حركة فتح متقشفة لا تملك آلة نسخ يدوية، واعتمدت على مساهمة أعضائها
المالية، وكان معظمهم من صغار الموظفين، لذلك كانت تطبع أدبياتها على ورق
خفيف على آلة كاتبة وتستخرج منه بعض النسخ باستخدام ورق الكربون. ورغم أن
فتح لم يكن لها برنامج سياسي إلا أن اتجاهها كان الجهاد والتحرير، وكانت
لها رؤية سياسية مرحلية تتمثل في توريط الدول العربية النائمة في محاربة
"إسرائيل"، وذلك باستفزاز الأخيرة بعمليات عسكرية صغيرة على الحدود، فترد
"إسرائيل" بمهاجمة الدول العربية فتشتعل الحرب بين الطرفين، ويتم تحرير
فلسطين. وفي هذا السياق جاءت العملية العسكرية الرمزية التي أطلق عليها
اسم "انطلاقة فتح" في 1/1/1965 وفي تلك المرحلة تلقت فتح الدعم من سوريا،
وقوبلت بالشك من عبدالناصر الذي اتهمها بالعمالة لحلف السنتو، لذلك أدار
ظهره لسوريا عندما أسقطت "إسرائيل" ست طائرات "ميج" سورية في 7/4/1967.
قد يعجب المرء إذا قلنا إن العطب بدأ يدب في أوصال فتح كثورة فلسطينية
للتحرير عندما أعلنت عن بدء عملياتها العسكرية في 1/1/1965 مع أن عمليتها
الأولى (الانطلاقة) التي نسبت إلى جناحها العسكري الذي حمل اسم "العاصفة"
شكلت استفتاء شعبياً فازت فيه "فتح" على كافة الأنظمة الثورية والأحزاب
القومية من المحيط إلى الخليج، فتقاطر عليها المتطوعون وتدفقت عليها
التبرعات الشعبية من كل حدب وصوب. وقد ناضل ياسر عرفات ليبرز من بين
زملائه فحمل لقب "الناطق باسم حركة فتح"، وكان أوسعهم ثروة وأقلهم
التزاماً عائلياً. واستطاع ببراعته في النهاية الحصول على دعم ومباركة
الأضداد، عبدالناصر الذي رفعه إلى منصب رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية
في فبراير/شباط 1968، والحاج أمين الحسيني الذي كان عرفات على اتصال سابق
به. وقد سبق للحاج أمين أن شجب تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، وهاجم
أحمد الشقيري بعنف (1964)، ولكنه وافق على نقل القيادة الفلسطينية إلى
عرفات، الذي كان كذلك الأكثر قبولاً لدى الملك حسين من غيره من قادة فتح.
لقد استطاع عرفات أن يلعب ببراعة فائقة على التناقضات داخل فتح وخارجها
لتثبيت زعامته بالاعتماد على مبدأين تبنتهما حركة فتح، وهما: أنها بلا
هوية سياسية، والثاني عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية،
والمبدأ الأول حولها إلى ائتلاف بين أجنحة سياسية لعب عرفات على
تناقضاتها، والمبدأ الثاني أمن له الدعم من الدول العربية النفطية
المحافظة بعدم استفزازها، ومن الدول المسماة ثورية التي أعفاها من عبء
مواجهة "إسرائيل". وبسيطرته على المال والمناصب استطاع عرفات أن يحول فتح
ومنظمة التحرير إلى "إمبراطورية" لا تسيطر فقط على الأفراد والأجنحة في
"فتح"، بل تستطيع أن تشتري رموزاً سياسية بالمال والمناصب ممن اعتزلوا
منظماتهم وأحزابهم أو عزلتهم.
الذي نراه، أن نتيجة انتخابات المجلس التشريعي (25/1/2006) لم تكن هزيمة
لأعضاء حركة "فتح"، وإنما كانت شهادة وفاة لإمبراطورية عرفات، التي
انهارت بوفاته. وإذا كان هناك من يريدون بعث حركة "فتح"، فعليهم أولاً
تحديد الهوية السياسية ومعايير الانضباط للحركة، وذلك بوضع ميثاق للمبادئ
وبرنامج سياسي كمعيار ولاء للوطن، وتصميم بنية تنظيمية ديمقراطية
للمحافظة على تماسك الحركة. وإننا نحذّر بأن البديل لذلك أو ما يسمى
بالإصلاح لن يتمخض إلا عن شبكة عصبوية تتعامل في السياسة بأساليب مغامرة،
ولا تورث الأجيال القادمة منظمة سياسية قابلة للاستمرار. فلا يزال لدى
"فتح"، ممن هم في منأى عن الانحراف والفساد، الكثير من المفكرين، وأكثر
منهم من المتمرسين في العمل السياسي، الذين لم تتوفر لهم الحظوة لدى
الرئيس الراحل عرفات لأنهم لم يسعوا إلى التماسها. فهل تستطيع "فتح"
إعادة اصطفاف كوادرها وفرز قادتها لتبعث نفسها من جديد؟
|