هل أصبح أطبائنا في دائرة الإتهام
...لماذا؟
"دعنا
نذهب الآن و الوضع حامي ونضرب الطبيب "علقة"
فهو يستحق ذلك وأكثر" عبارة أصبحت تتردد على ألسنة بعض الناس لاسيما الشباب
صغار
السن أثناء حرقتهم وغضبهم وهياجهم وحزنهم بعد سماع وفاة قريب لهم في أحدى
المستشفيات في قطاع غزة، وتحديداً في مستشفى الشفاء بغزة باعتباره المستشفى
الرئيسي
هنا. حيث يُحمّل هؤلاء الشباب أحد الأطباء أو مجموعة منهم المسؤولية
المباشرة أو
الإهمال الذي أودى بفقيدهم الشاب. وقد شهد مستشفى الشفاء بالأمس القريب
اعتصاماً
للأطباء والممرضين احتجاجاً على تعرضهم للشتم والصراخ وحتى الضرب على يد
أقارب مرضى
قد انتقلوا إلى الرفيق الأعلى، أو أصيبوا بمضاعفات صحية خطيرة على أثر خطأ
طبي
محتمل. وقد وصل الأمر إلى حد التهديد المباشر للأطباء سواء داخل المستشفى
أو في
منازلهم. وبالتالي فإن تكرار هذه الحوادث في الآونة الأخيرة يصل بالأمر إلى
اعتباره
ظاهرة تستدعي منا ومن المخلصين في هذا الوطن إلى الوقوف على أبعادها التي
تتمثل
في:-
-
انتشار ثقافة الفوضى والعنف في المجتمع، فقد أصبح
التطاول على الآخرين سواء في المستشفيات أو الجامعات أو الشوارع ظاهرة عامة
تنتشر
انتشار النار في الهشيم. فلم يعد هناك ضوابط أخلاقية اجتماعية أو قيم دينية
يحتكم
لها الناس في سلوكهم وتصرفاتهم، فأصبح كل شئ مباح فالتطاول على الأمن
الشخصي مباح
والتهجم على سمعة الناس وشرفهم وإنزال البيانات بهم قد أصبح بالأمر السهل.
-
الإهمال المستشري لدى الكثير في أعمالهم فهناك من
الموظفين من لا يذهب إلى عمله بالمطلق، وهناك من الموظفين الذي يقضي معظم
الوقت في
عمله في القيل والقال، والكيد وإحاكة الدسائس والمؤامرات لزملائه أو في
أحسن الظروف
يقضي النهار في قراءة الجرائد لاسيما حل الكلمات المتقاطعة بصورة فردية أو
في حفلة
جماعية. وبالتالي نحن نعاني هنا من تراجع الوخز الضميري اتجاه العمل
وإتقانه.
-
إن حديث الشارع حول الأخطاء التي يقع فيها الأطباء
قد أصبح منتشراً، وتلوك الأفواه هنا وهناك عن نسيان طبيب القطن في بطن
مريضة أثناء
عملية الولادة القيصرية، أو قيام طبيب بحقن مريضة بحقنة أودت بحياتها بعد
ساعات أو
أيام. وتناقل هذه الأخبار قد أصبح من كثرتها مصدر تندر أهل الشارع الصغير
والكبير،
الحليم والجاهل، الذكي والغبي. ولسان حالهم القول إن البلد قد أصبحت مليئة
بالأطباء
من ... وهم زي الهم على القلب. وإذا حدث خطأ هنا أو هناك يُسارع إلى تعميمه
والقول
فهو خريج جديد من ... أو طبيب عفا على علمه الزمن وكأن كل الأطباء قد
أصبحوا في
دائرة الاتهام. وبالتالي يشهد المجتمع اليوم حالة من فقدان الثقة بالعلاج
في قطاع
غزة. وفقدان الثقة قد أصبحت ظاهرة عامة فما أن يحدث مرض أو حادث لأحد حتى
تكثر
الألسن بضرورة أخذه وتحويله إلى الخارج للعلاج، وأن بقاءه للعلاج في غزة قد
يعجل
بانتقاله إلى الرفيق الأعلى كما حدث مع فلان هنا أو علان هناك.
-
اتهام الأطباء بالتلكوء في نقل مريض أو مصاب إلى
المستشفيات الإسرائيلية قد أصبح مصدر اتهام مستمر ومتكرر وهذا بالطبع
مرتبطاً
بالنقطة السابقة من فقدان الثقة بل يمكن القول انعدام الثقة بالعلاج الطبي
في
مستشفيات قطاع غزة. فمثلاً شهد الأسبوع المنصرم حادثة صدمة كهربائية لأحد
الشبان
البالغ من العمر سبعة عشر عاماً، وبالرغم من وصوله فاقداً للوعي إلى
المستشفى،
وإصرار الأهل على نقله للمستشفى في إسرائيل لفقدانهم الثقة في العلاج في
غزة فإن
القسم والطبيب المسؤول لم يقم بإعطاء التحويلة اللازمة لنقله. وبعد عدة
أيام من
تلكوء القسم تحت الأمل بتحسن الحالة، واستقراها فقد الشاب حياته. وهنا يكمن
التساؤل
هل الطاقم الطبي في المستشفى مهئ لاستقبال حالة بهذه الخطورة، هل الأجهزة
المتوفرة
في المستشفى مناسبة لعلاج ومتابعة هذه الحالة بعد أن علمنا أن جهاز التبريد
في
الغرفة قد كان معطلاً مما دفع الأهل إلى جلب مروحة هوائية من المنزل، وإذا
كان جهاز
التبريد لا يعمل فهل هناك أجهزة أخرى متوفرة ولكنها معطلة أيضاً؟ هل بالفعل
كانت
حالته بحاجة إلى النقل إلى مستشفيات إسرائيل حيث يتوفر هناك العلاج المطلوب
ولكن
نظام التحولات نظام عقيم يسوده الرشوة والمحسوبية؟ هل تم تشخيص الحالة
جيداً وبناء
عليه تم إبقائها في غزة للعلاج؟ هل كانت الحالة ميئوس من شفائها وأن
الأطباء لم
يقوموا بإخبار الأهل بكل مصداقية وشفافية بطبيعة الحالة الصحية؟ هل وهل
وهل.....ألخ.
-
فقدان الناس الثقة بلجان التحقيق التي تُشكل لكشف
ملابسات بعض حالات الوفاة. وقد أصبح ذلك ظاهرة فقد بها الناس الإيمان بأي
شيء حتى
لو توصلت هذه اللجان إلى الحقيقة الدامغة، واتصفت بالمسؤولية العالية
والمصداقية.
فبالأمس القريب أقرأ بياناً وقع برقم (2) وصادر بتاريخ 21/5 عن أصدقاء أحد
المرضى
الشباب الذي توفوا في المستشفى بعد حقنه بحقنة أودت بحياته كما ورد في
البيان. وقد
أضاف البيان "هذا بياننا التوضيحي الثاني نعلمكم فيه أنه تم تشكل لجنة
تحقيق من
مستشفى ... وتم التحقيق بشكل مفبرك وغير شفاف، وإننا نطعن باللجنة التي
قامت
بالتحقيق بالقضية". وتضمن البيان أيضاً تهديداً ووعيدا "لكن يميناً من أن
لا يضيع
دمك هدراً مهما كان الثمن ومهما كانت الوسيلة ... وأن التفريط بأرواح
المرضى ليس
بالأمر السهل، وإننا نؤكد أنه لا مكان للقتلة بيننا". وهذا البيان يعكس
سلوكاً
وثقافة عامة أصبحت تسود مجتمعنا الفلسطيني وتهدد مستقبل العلاقات
الاجتماعية فيه
ولذلك وأمام ما ذكرناه سابقاً فإننا نرفع التوصيات التالية:-
-
إن التهجم على الأطباء والمرضى قولاً وفعلاً هو
سلوك منافٍ لعاداتنا وقيمنا السليمة، وهو معالجة خطأ بخطأ أفدح. حيث أن هذا
التطاول
يعكس احتكام المجتمع إلى العنف تجاه فئة لها دورها ومكانتها المجتمعية. وأن
التهجم
قولاً أو فعلاً عليها يحط من قيمتها، ويجعل المجتمع فاقداً للنموذج والمثل
الذي
يحتذى به. ويؤدي ذلك أيضاً إلى مشاكل عائلية تفقد المجتمع وحدته وتضامنه
وتكافله في
وقت نحن بأمس الحاجة إلى ذلك.
-
إن التعميم هو ظاهرة سلبية، فإن وجود بعض الأطباء
المهملين، أو الذين فقدوا ضميرهم، وأصبحوا يلهثون وراء الغناء الفاحش،
ونسوا أن
مهنتهم هي رسالة إنسانية قبل كل ِشئ لا يعني أن كل الأطباء كذلك. فإن
قطاعنا الحبيب
مليء بالأطباء المميزين الذين قدموا خدمات جليلة للمرضى والمصابين في قطاع
غزة
أثناء الانتفاضة الأولى والثانية بالرغم من نقص الإمكانات والظروف الصعبة.
وليس
هكذا يرد الجميل لهؤلاء وألا أصبحنا مجتمعاً ناكراً للجميل.
-
نطالب وزارة الصحة بإتباع المصداقية والشفافية في
عملية التوظيف، وضرورة أن يرتق الامتحان للمتقدمين إلى أعلى المستويات حتى
يتم
إفراز أفضل الأطباء للتوظيف. فإن الخطأ و الإهمال الناجم عن عمل الطبيب ليس
بالأمر
الهين، ففيه إزهاق أرواح أناسٍ يحق لهم الحياة باعتباره حقاً طبيعياً كفلته
الأديان
جميعاً ومواثيق حقوق الإنسان.
-
ضرورة تشكيل لجان تحقيق حيادية، ذات مصداقية
وشفافية عالية من أجل التحقيق وكشف ملابسات بعض حالات الوفاة التي تثار
حولها
الشبهات. مع وجوب الاحتكام لنتائجها من أجل مكافحة الإهمال والضرب بيد من
حديد على
يد من يتلاعب بأرواح الناس أياً كان من كان.
-
وجوب إعادة النظر في نظام التحويلات المعمول به
الآن. وضرورة تشكيل لجنة يناط بها تحديد المعايير اللازمة لذلك، وعدم ترك
تقدير
الحالة إلى شخص واحد ممكن أن يجانبه الصواب.
إننا ندرك أن الوضع قد أصبح صعباً، وغير محتمل ولذلك
نرفع صوتنا عالياً من أجل الخروج من دائرة الاتهام والعنف الذي تتسع حلقته
يوماً
بعد يوم. ونهيب بالجميع أن يرتق إلى المسؤولية لمعالجة الوضع المتأزم قولاً
وفعلاً.
د. خالد محمد صافي
أستاذ
تاريخ العرب الحديث والمعاصر- جامعة الأقصى-
غزة
khsafi@hotmail.com
6/12/2005
|