آن الأوان لطرح الأسئلة الـملحّة والـمؤجلة

بقلم: د. رياض المالكي*

منذ فترة طويلة والعديد من الدبلوماسيين والصحافيين الأجانب يطرحون علينا نفس السؤال مرة تلو الأخرى والـمرتبط بهوية الشخص الـممكن أن يتولى السلطة بعد رحيل الرئيس عرفات. ورغم استماعهم لنفس الإجابة مرة تلو الـمرة، إلاّ أنهم لـم يقتنعوا بها وكأنهم ينتظرون إجابة مختلفة كلياً أو على الأقل هكذا يتوقعون. وتعود نفس الأسئلة من جديد هذه الـمرة مع انتشار خبر مرض الرئيس وما رافق ذلك من إشاعات مختلفة وصلت في ادعائها عن حالة الـمرض لديه إلى أقصى درجات التدهور، إلاّ أنه يبدو أن الحالة الراهنة تطرح معها سلسلة جديدة من الأسئلة ذات امتدادات أبعد من هوية الشخص الذي سيخلف الرئيس عرفات، أسئلة طبيعتها مرتبطة بتداعيات الوضع ما بعد عرفات وطبيعة التطورات الـمصاحبة لهذا التغيير القسري، ومدى جاهزيتنا للتعاطي إيجاباً معه تفادياً لأية حالة انزلاق سياسي أو امني ممكنة نتيجة للظروف الجديدة.

الأسئلة كثيرة وأهمها ما هي النتائج الـمباشرة لعملية غياب الرئيس عن الساحة السياسية؟ وهل سندخل في حالة عدم استقرار سياسي وأمني؟ ومدى طول تلك الحالة والثمن الـمطلوب دفعه خلالها؟ وهل القيادة الفلسطينية على مستوى من الـمسؤولية لتحمل عبء عملية الانتقال بشكل سليم وسلس وهادئ، أم أن عملية الانتقال ستواكبها عمليات اغتيال سياسي وتصفيات شخصية وخطف وتَشكُل لظاهرة الـملوك والقبائل التي ستعتمد على الـميليشيات الـمسلحة، كما هي الحال مع جمهوريات الصومال الـمتناحرة، ما سيدفع إلى انهيار كامل للسلطة وفشل التجربة الوطنية الفلسطينية وثبوت عدم أهلية الفلسطينيين لحكم أنفسهم؟ الأيام القادمة ستبيّن لنا ماهية التوجه الذي سيختاره أمراء الحرب أو أمراء السلام منّا. قائمة الأسئلة تطول لتشمل الآثار والأضرار التي ستطول الشارع الفلسطيني وبالتالي قضيته جرّاء غياب الرئيس، وتغير القيادة الحالية، ومن هم الـمستفيدون أو الـمتضررون من هذا التغيير على الـمستوى الفلسطيني و الإسرائيلي والعربي والدولي؟ وكيف يمكن قياس ذلك؟وانعكاساته على واقع الحال الفلسطينية وعلى جوانبه الـمختلفة والتوقعات الـمجتمعية له؟

هناك من يعتقد أن من سيخلف الرئيس عرفات، أيأ كان، لن يملك القدرة القيادية والكاريزما الشخصية الـمطلوبة لقيادة هذا الشعب الصعب والـمحنك، وعليه سينعكس هذا الضعف على شكل الأداء والذي ستستغله العديد من مجموعات الاهتمام الخاص بشقه الأمني والاقتصادي والسياسي والفئوي، ما سيحد من قدرة تلك القيادة إن توفرت لها الصلاحيات في أخذ زمام الأمور وتحريك دفة الحركة السياسية نحو الأمام، لتقع في وحل عمليات الابتزاز الهادفة إلى إفشال أية محاولة لإيصال الـمركب الفلسطيني إلى بر الأمان. وضمن نفس الوصف سينتج عنه تهاوي تجربة السلطة مخلّفة وراءها كماً كبيراً من التبعات أهمها سقوط التجربة الوطنية وبروز خيارات الوصاية بأشكالها الـمتعددة وفي أفضل الحالات تكرار تجربة "لحد" في الجنوب اللبناني.

وهناك من يعتقد أن تمرير عملية الانتقال بكل سهولة سيثبت قدرة هذا الشعب ومعه قيادته على النجاح في الامتحانات الصعبة وبالتالي فوزها بفترة جديدة من الاختبار السلطوي، وإعادة توفير فرصة أخرى لها على كل الصعد السياسية والتفاوضية والاقتصادية من شأنها إعادة عجلة الإنتاج من جديد، وبث روح جديدة في نفس الـمواطن الغارق في آلامه وفي همومه اليومية والوطنية. هذا يتطلب تكاتف الجميع والتزامهم بوجود سلطة واحدة وسلاح واحد وقانون واحد لا يحتمل التعددية.

هناك من يعتقد أن شارون سيستفيد من عودة الرئيس إلى الوطن بعد رحلة العلاج لحاجته التأكيد من جديد على غياب الشريك الجدي على الـمستوى الفلسطيني من خلال الاحتفاظ بعرفات وبالتالي منع بروز قيادة جديدة، ما يسهّل الـمهمة على شارون في الإبقاء على الـمفاوضات مع الفلسطينيين في حالة جمود لعدم توفر الشريك الـمفاوض والجدي، وبالتالي في عدم التزامه بتعهداته التي قطعها عند موافقته على خارطة الطريق لصالح تنفيذ خطته بالانسحاب من غزة لتعزيز التواجد الاستيطاني اليهودي في مناطق الضفة، وهذا ما جعل شارون يوافق على فكرة عودة الرئيس بعد شفائه. بينما غياب الرئيس سيسهّل الحال على نتنياهو والـمستوطنين لادعائهم أن الـمبرر الأساس الذي عليه قامت فكرة الانسحاب من غزة وهو غياب الشريك الفلسطيني قد تلاشى مع خروج الرئيس عرفات ونقل الصلاحيات إلى قيادة جديدة أكثر استعداداً للتفاوض مع الجانب الإسرائيلي وفق الشروط الأمنية الأخيرة.

في ضوء كل ما ذكر كيف بالامكان ضبط الأمور خوفاً من خروجها عن الـمأمول به واندفاعها باتجاه ما نتخوف منه جميعا؟ وهل بإمكاننا كقوى سياسية ومجتمعية أن نكون صمام الأمان ضد هذا التدهور الـممكن؟ وما هي الاشتراطات الـمطلوب توفرها كي نتحول إلى صمام الأمان الـمطلوب منعاً لأية عملية انزلاق محتملة؟

حتى اللحظة ليس لدينا، ولن يكون، أدنى فكرة عن مستوى الصلاحيات التي وافق الرئيس عرفات على نقلها إلى القيادة الـمؤقتة في حال تم الاتفاق على تشكيلها، أو إذا ما وافق الرئيس عرفات قبل مغادرته الـمقاطعة على نقل أي من صلاحياته، على الرغم أن الـمنطق يقول إن صلاحيات الرئيس يجب أن تنقل إلى شخص آخر خلال فترة غيابه، خاصة أن الفترة الـمطروحة غير محددة بزمن، كما أن الغياب هنا ليس مرده زيارة رسمية وإنما علاجية. الحد الأدنى الـمتوقع هو أن تتم عملية تسيير سَلِسَة لشؤون السلطة بالوكالة دون أية تعيينات رسمية من شأنها تثبيت أسماء كبدائل للرئيس في عقول مَن يبحث دوماً عن بدائل قيادية. فكرة التكليف الجماعي الـمؤسسي وغير الفردي هدفها الهروب من الفخ الـمنصوب والـممكن الوقوع فيه بسهولة، ومن أجل تجنب توفير مناخات تنافسية في مرحلة تستوجب أكبر قدر ممكن من الاستقرار على كافة الـمستويات عبر إبقاء الأمور على ما هي عليه دون أدنى تغيير أو تبديل. أم أن الـمكلفين بحكم مواقعهم القيادية في تلك الـمؤسسات سيستغلون الفرصة لإدخال الإصلاحات الضرورية الـمطلوبة لعودة فلسطين إلى مسرح الحدث العالـمي بمضامينه الايجابية وبالتالي إعادة توفير الفرصة الضائعة للـمواطن وللوطن كي يستعيد عافيته وكرامته وحقوقه وفرصه في السلام والسيادة والدولة والاستقلال.

لفترة طويلة من الزمن وهذه الأسئلة تعتبر جزءاً من الـمحظورات على الساحة السياسية وقد لا تزال حتى اللحظة، إلا أن الـمتغيرات الأخيرة لا بد لها أن تعكس فرصة تاريخية لطرحها من أجل التفكير السليم بكل الإمكانيات الـمتاحة والـممكنة ضمن الواقع القائم وبحثاً عن فرص النجاة الـمطلوبة أمام شبح الخوف والدمار الذي يلوح محلياً، ومعه الكثيرون من مشجعيه، بينما واقع الدمار يستمر عبر الـماكينة الاحتلالية الإسرائيلية في كل موقع وزاوية. على الرغم من الـمجازفة التي تحملها هذه الأطروحة عند من سيسيء فهمها أو سيرفض توقيت طرحها أو من سيربطها بعناوين كبيرة من الاتهامات الجاهزة، إلا أنها على الرغم من تأخرها قد أثبتت أن ضرورتها لا تزال قائمة بل إنها قد تضاعفت مع حلول الواقع الجديد بكل تداعياته، وأضحت ملحة تتطلب معالجة جدية وبنفس القدر من الأهمية.

كما هي الحال دوماً فالخيارات هي خياراتنا، والقرار هو لنا حول الاتجاه الذي نختاره، وعليه سنتحمل الـمسؤولية الكاملة في حالة الفشل من جديد أو في حال النجاح الذي نصبو إليه ونأمل أن يتحقق. الـمشكلة هي تعدد اللاعبين وتعدد الاتجاهات وكثرة الـمعنيين من محليين وأجانب، وبالتالي إمكانية ضياع الهدف النبيل وسط هذا الكم الهائل من التدافعات والتجاذبات والـمصالح والاستقطابات التي تفوق الـمصلحة الوطنية وتتعداها. بينما نراقب، وكما كنا دوماً نحسن الـمراقبة، علينا أن نتفاعل مع هذا التغيير بشكل من الجدية والانتقال من حالة الوصاية التي فرضتها الأحزاب ومراكز القوى والتيارات وأمراء الحرب إلى حالة أخذ زمام الأمور بأيدينا، فإما العمل من أجل الوطن وإما الخروج عن الوطن. وتجربتنا في حسن الـمراقبة طوال السنوات العشر العجاف قد أكسبتنا الكثير من الـمزايا، وعلى الأقل وفرت لنا القدرة على التمييز وإدراك الحقائق في زمن التراجع الحاصل.

 

* مدير عام "بانوراما"- المركز الفلسطيني لتعميم الديمقراطية وتنمية المجتمع

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع