الفلسطينيون في مرحلة ضبابية، فلا هم دولة كاملة، ولا هم حركة تحرير وطني
خالصة، ومفهوم الأمن الوطني المطلوب يخضع لتجاذب بين الحالين، غير أن آغا
والخالدي، الزميلين في كلية سانت انطوني في جامعة أوكسفورد، بين أفضل
الجيل الشاب من المفكرين العرب، وقدرتهما الأكاديمية تبرز في كل فصول
الكتاب الصادر عن المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) في لندن.
الكاتبان يطرحان تطوير مفهوم أمن وطني فلسطيني يخدم صوغ السياسة
والاستراتيجية للشعب الفلسطيني. وسواء قُبِلَ المفهوم علناً، أو بقي
مكتوماً، فإنه يبقى أداة لعرض حاجات الأمن الفلسطيني والمخاوف والأهداف،
ولطمأنة الفلسطينيين والإسرائيليين والجيران الآخرين والأطراف المهتمة
الأخرى.
المفهوم، كما يراه المؤلفان، يحدد العناصر الأساسية في التفكير الأمني
الفلسطيني، ومع فوز حماس أصبح موضوع استخدام السلاح أكثر إلحاحاً،
والكتاب يشرح ان القوة جزء لا يتجزأ من الأمن القومي، واستخدام
الفلسطينيين لها محكوم بالقوانين الدولية والأعراف والمواثيق، فحقهم في
استخدام القوة لا يجوز أن يكون أقل أو أكثر من أي شعب آخر أو دولة، وشرطه
عدم مخالفة التزاماتهم الإنسانية أو الأدبية أو القانونية.
كنا قلنا لحماس بعد الفوز إنها لا تستطيع ان تكون الحكومة والمعارضة
معاً، وهي فعلاً عرضت على إسرائيل هدنة طويلة الأمد، والمؤلفان يغلفان
هذه الفكرة بلباس أكاديمي.
مع فوز حماس يكتسب الملحق الأول في الكتاب أهمية مضاعفة، فهو يقدم «أجندة
تحديات الأمن الوطني الفلسطيني». ويجمع المؤلفان أهم عناصر الأمن الوطني،
ويسألان أسئلة كثيرة، أقدّم بعضها باختصار شديد هنا:
1 – التحرير أو بناء الدولة. هناك توتر بين طلب بناء الدولة وأماني تحرير
الأرض، وهل يكون أحدهما بالضرورة على حساب الآخر، وهل يمكن التخلي عن
أحدهما، وما هي عواقب ذلك.
2 – الداخل والخارج. تقيم غالبية الفلسطينيين خارج أرض فلسطين التاريخية،
وبين مشكلاتهم ان كثيراً من أجهزة منظمة التحرير نقل الى الأراضي
المحتلة، وأصبح السؤال هل يحق للداخل التقرير للخارج أيضاً، وكم تلزم
قرارات طرف الطرف الآخر.
3 – منظمة التحرير والسلطة الوطنية. العلاقات بين الجانبين تعكس الانقسام
بين داخل وخارج، والتوتر بين بناء الدولة (الذي يريده الداخل) والتحرير
الذي يطلبه الخارج. وأسئلة أخرى: هل السلطة والمنظمة تكملان إحداهما
الأخرى؟ وماذا يحدث إذا قام نزاع؟ وهل يحق للسلطة ان تتحدث باسم جميع
الفلسطينيين؟
4 – الكفاح المسلح والتفاوض. كان الكفاح المسلح جزءاً بارزاً من النضال
الوطني الفلسطيني، وقدمت المنظمة والسلطة التفاوض عليه، وأصبح دوره
يكتنفه الغموض، والسؤال هو هل يتخلى الفلسطينيون عن الكفاح المسلح
ويختارون التفاوض، وهل هذا فعّال من دون التهديد باللجوء الى العنف (أزيد
من عندي ان أبو عمار اعتقد يوماً انه يستطيع أن يفاوض ويقاوم، وهناك
تجربته أمام حماس لتستفيد منها).
5 – الأمن الفردي أو الجماعي. مواضيع الفلتان الأمني والفوضى العامة تثير
مشكلات للأمن الشخصي الفلسطيني، وتوجد هوة مع الأمن الجماعي. والسؤال هل
يضحى بواحد في سبيل الآخر؟ وهل تستطيع السلطة الوطنية الاستمرار من دون
توفير الأمن الى المواطنين؟
6 – الاتفاقات الدائمة والموقتة. طلب الفلسطينيون اتفاقاً دائماً على
أساس دولة لهم في الأراضي التي احتلت سنة 1967 عاصمتها القدس العربية،
وحل يتفق عليه لموضوع اللاجئين. والفلسطينيون يشككون في الاتفاقات
الموقتة ويرون انها تقوي الاحتلال، غير ان ميزان القوى يميل بقوة الى
اسرائيل، فهل يقبلون حلاً موقتاً في انتظار أوضاع أفضل للحل النهائي؟
7 – الأحادية مقابل الثنائية. اسرائيل تتفرد بالقرارات مما يوجد صعوبات
كثيرة لمنظمة التحرير والسلطة الوطنية، فهل المطلوب ان يطور الفلسطينيون
موقفاً أحادياً مقابلاً؟ أم هل الأحادية مضرة بالفلسطينيين؟ وهل الأحادية
افضل في غياب المفاوضات أم لا؟
8 – التاريخ مقابل الجغرافيا. الفلسطينيون يتحدثون عن حقهم التاريخي
الثابت في بلادهم، ولكن تجربة العقود الثلاثة الأخيرة تظهر ان منظمة
التحرير طورت موقفها من المطالبة بكل أرض 1948 الى التعايش مع اسرائيل
على جزء بسيط من أرض فلسطين التاريخية. هل تتغير الحقوق التاريخية
الثابتة؟ وهل يضحى بالتاريخ من أجل مكاسب جغرافية سياسية؟ وهل من مصلحة
الفلسطينيين قبول تسوية وسط؟
9 – الحقوق الانسانية مقابل السياسية. أهم حق يطالب به الفلسطينيون هو
«حق العودة»، إلا انه لم يوضع للبحث في شكل جدي. هل تستطيع القيادة
الفلسطينية التخلي عن هذا الحق وما هو الموقف الرسمي والشعبي منه؟
10 – دولة ذات حدود موقتة مقابل فرز عنصري (ابارتيد). مع غياب حل دائم من
طريق المفاوضات يواجه الفلسطينيون خياراً بين دولة ذات حدود موقتة هي أقل
كثيراً من طموحاتهم أو البقاء تحت الحكم الاسرائيلي في ما يشبه
(أبارتيد). وفي حين ان الخيار الثاني مر، فإنه سيكلف الاسرائيليين كثيراً
وقد يكون خطوة نحو الدولة، ولكن ما هي فرص الفلسطينيين في تحقيق هدفهم؟
وضاق المجال مع وجود عشر نقاط اخرى في الأجندة، فأكتفي بالعناوين وهي: 11
– الديموغرافيا مقابل المساحة. 12 – الديموقراطية مقابل التقاليد. 13 –
الوقت مقابل «حقائق على الأرض». 14 – دولة عادية مقابل دويلة. 15 –
الرؤية مقابل الاستراتيجية. 16 – التوافق مقابل الغالبية. 17 – الزعيم
مقابل الرئيس. 18 – الانجاز السياسي أو الاقتصادي. 19 – التنمية الوطنية
(بمعنى المتكاملة) أو المجزأة. 20 – القرار المستقل أو تدويل القرار.
كل ما سبق مهم، وكنت أتمنى لو يتسع المجال للبحث في قضايا من نوع
«التوافق مقابل الغالبية». فالموضوع مطروح من لبنان الى الأراضي
الفلسطينية، ولأسباب أفرزتها الانتخابات هنا وهناك.
الكاتبان يخاطبان المفكرين العرب والأكاديميين مثلهما قبل بقية الناس،
غير ان الأفكار المطروحة ليست أكاديمية، بل في صلب حياة الفلسطينيين،
وربما ستصبح أسهل منالاً عندما يترجم الكتاب الى العربية، فقد فهمت من
المؤلفين ان النص العربي سيكون مكتملاً خلال شهرين