أما زالوا مطلوبين!! ألم تكن الهدنة حاجة إسرائيلية؟

د. فايز صلاح أبو شمالة

            إن منطق الحرب والسلام يقول: ما دامت المعركة قد توقف رصاصها، والتزم الطرفان بالهدنة، فلا يحق لأي طرف أن يطالب الطرف الأخر تسليمه مقاتليه، وجنوده، وأبنائه، وبناته لمعاقبتهم على مقاومتهم السابقة له، لأنه عجز أثناء المعركة عن أسر هؤلاء الجنود، أو تصفيتهم، أو قتلهم، أو المس بهم، فلا يجوز له أن يحقق ذلك بعد انتهاء المعارك، ولا يصح أخلاقياً وإنسانياً ونضالياً، وعربياً، وإسلامياً ومسيحاً، أن يسهل أحد أطراف الحرب للطرف الآخر ما عجز عن تحقيقه في الميدان، إلا في حالة واحدة، أن يكون أحد الأطراف قد سحق ميدانياً، ومحق عسكرياً، وخنق معنوياً، وانصاع لشروط المنتصر.

            فهل انتصرت إسرائيل على شعب عربي فلسطيني يقاوم، وما يزال؟

            إن كان لا، فما معنى هذه المطالبة الإسرائيلية في حشر كل الذين قاوموا احتلالها في إحدى زوايا مدينة أريحا؟ وتسميهم بالمطلوبين؟ أليست هذه اشتراطات مذلة لكرامة العرب الفلسطينيين، ولمضمون الهدنة التاريخي، والسياسي، والدولي؟

            إن غالبية المقاومين الفلسطينيين للعدوان الإسرائيلي (المطلوبين كما تسميهم)، هم من قطاع غزة، وهؤلاء المقاومون قد نجحوا طوال فترة المقاومة في النجاة من قصف الطائرات والدبابات والرشاشات الإسرائيلية التي لم ترحم، وقد ضمنوا معركة المواجهة مع الإسرائيليين لصالحهم الوطني عندما أعلن شارون عن الانسحاب من غزة من طرف واحد، ولصالحهم الشخصي بالبقاء على قيد الحياة، وفي الحالتين نصر للمقاومة، من هؤلاء الذين فشلت إسرائيل وعملاؤها في تصفيتهم، ولأكثر من عشر سنوات متلاحقة؛ القائد القسامي محمد ضيف الذي عجزت كل وسائل التجسس الحديثة، والطائرات، وأجهزة التصنت، والرؤية الليلية على تصفيته، وأمثاله محمد أبو شمالة، ورائد العطار، وأبطال كتائب شهداء الأقصى، وغيرهم المئات، فكيف يخرج علينا بعد ذلك من يقول: يجب جمع المقاومين في أريحا كي لا تلاحقهم إسرائيل!! ألا تعني هذه الملاحقة من قبل إسرائيل نهاية للهدنة ؟

            فإذا كانت إسرائيل قد قررت الانسحاب من قطاع غزة حتى شهر يوليو هذا العام كما يقولون، فما لها ولمن يقيم فيه من أبنائه المقاومين، لماذا تفرق شملهم عن ذويهم، وهي التي عجزت عن فعل ذلك طوال سنوات المقاومة، إن في هذا المطلب قتل معنوي لهؤلاء الرجال يهون أمامه، ويتضاءل القتل الجسدي، وفيه مؤشر سوء نوايا إسرائيلي، لا يصح لعاقل ووطني وصادق مجرد الاستماع إليه، لأن وراء هذا المطلب الإسرائيلي نية نزع سلاح المقاومة، ذلك السلاح الذي ضمن توازن الرعب مع إسرائيل، والذي سيضمن نزعه بسط النفوذ الإسرائيلي على كل نفس فلسطينية أبية، وبالتالي يترك المقاومين في حاجة إلى الحماية، والتخفي في أريحا، أو غيرها من المحميات الطبيعية.

            إن سلاح المقاومة ورقة ضغط بيد المفاوض الفلسطيني، وعليه أن يوظفه لما هو في صالح القضية المركزية، لا أن يفكر في كيفية نزعه، لاسيما أن سلاح حماس وكتائب شهداء الأقصى، وإخوانهم، قد اختفى من الشوارع، ولا تكاد كل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية المدربة معرفة شيء عنه، وكأن لم يكن في يوم من الأيام لتنظيم حماس قوة على الأرض، تحللت وذابت مع تراب الوطن، ولا رائحة لجند حماس في شوارع قطاع غزة، هذا الانضباط الرجولي لصالح المفاوض الفلسطيني إن أراد التقدم خطوة إلى الأمام، ويواجه المفاوض الإسرائيلي بندية، وتوازن.

            وهنا نسجل على المفاوض الفلسطيني في الأيام الأخيرة خطأين؛ الأول موافقته على طرح موضوع المقاومين (المطلوبين) على طاولة المفاوضات، والخطأ الثاني يتمثل في تعاطي المفاوض الفلسطيني مع التسمية الإسرائيلية للمقاومين، ووصفهم ب ( المطلوبين).

            إن في الموافقة الفلسطينية على تسمية( مطلوبين) فيه إقرار رسمي فلسطيني، وموافقة مسبقة على التهمة التي توجهها إسرائيل إلى الجنود الفلسطينيين الذين شاركوا في مقاومة المحتل، وفيه تقبل مسبق لحكم غير قانوني، وغير أخلاقي، فكيف نسمي المقاتل المقاوم الذي رفض الاحتلال، وشرعت له القوانين الدولية، والسماوية، والعربية الفلسطينية، المقاومة للمحتلين بيته وأرضه، كيف نسميه مطلوباً؟ ومن هو صاحب الحق في طلبه، وبأي ذريعة؟

            لقد تم التوصل إلى هدنة، ولا تحمل الهدنة أي معنى غير توقف العمليات العسكرية، والتصفية، والقتل، والقذائف، والتفجيرات، وإنهاء كل مظاهر القتل من كلا الطرفين، فإن عاد الطرف المحتل إلى ملاحقة من كان نشيطاً في المقاومة، فمن حق الطرف المقاوم أن يجهد لكي يلاحق جندياً، ومستوطناً ما زال يحتل الأرض، ولا معنى، ولا تفسير للهدنة خلافاً لندية الالتزام في كل الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية.

            فإذا أظهر الإسرائيليون عنجهية تفاوض، ومحاولة لفرض الشروط، فإن الطرف الفلسطيني مطالب بأن يعدل من جلسته، ويرتب هندامه، لأن وقف إطلاق النار كان مطلباً إسرائيلياً كما كان مطلباً فلسطينياً، وكان حاجة إسرائيلية ماسة كما هو حاجة فلسطينية، فقد تألموا مثلما تألمنا، وفاض بهم الضجر، وسالت دماءهم حمراء مثل دمائنا، فلا منطق للمطلب الإسرائيلي سوى طراوة الأرض التي تعودوا حرثها، وسهولة الحصاد، وهنا يتوجب على المفاوض الفلسطيني في أسوأ الأحوال؛ أن يلجأ إلى التحكيم الدولي في مثل هذه الحالة الغريبة التي يطالب فيها الإسرائيليون محاسبة من قاوم المحتلين بأثر رجعي.

            وإن أصر الإسرائيلي على مطلبه، يصبح من حق الفلسطيني أن يطالب بملاحقة الجنود الإسرائيليين الذين مارسوا الاحتلال والاغتصاب والتعذيب عشرات السنين، وقتلوا، وسفكوا، وهدموا، وذبحوا، وهتكوا ستر الأمة العربية من الشرق إلى الغرب؟ وبهذا المنطق الإسرائيلي يمسي كل الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في الهجوم على الشجاعية، ورفح، وجنين، وخان يونس، وجباليا، والخليل، وبلاطة، كلهم مطلوبون للفلسطينيين، ولكل فلسطيني الحق في أن يقتنص، أو يقتص منهم، وفق المنطق الإسرائيلي، ما دامت إسرائيل لا تطبق ما تطالب الفلسطينيين بتطبيقه، ولا تقبل أن تحشر جنودها في مدينة واحدة؛ مثلما تطلب من الفلسطينيين، وهذا يعني عملياً توقف الهدنة المعلنة، فهل هذا ما تسعى إليه إسرائيل؟

            إن في الإصرار الإسرائيلي على تسليم المقاومين للاحتلال، ووضعهم في محمية طبيعية في أريحا، أو بيت لحم، سخرية من انتمائهم للوطن الكاذب، الذي يضعهم في النهاية في أقفاص بدلاً من وضعهم تيجان غار على الرأس، إن من حمل سلاح المقاومة عبر عن فائض رجولة، فكيف يقبل رجل مقاوم بهذا الشرط المهين؟ ولو قبل لبصقت عليه أمه، وعافته زوجته، وخجلت منه أخته، وتنكرت له بنته، وتبرأ منه أبوه.

             إن المصلحة الإستراتيجية الإسرائيلية العليا تقتضي أن يوضع هؤلاء المقاومون في مكان آمن، ويوفر لهم كل أنواع الطعام، والشراب، وأن تقدم لهم الحلوى، وأن تصرف لهم المكافآت، ليكونوا عبرة بعد ذلك في منفاهم، لكل من تسول له نفسه مقاومة المحتلين.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع