هؤلاء والتلاعب في الساحة
الفلسطينية
د. أكرم حجازي
كاتب وأستاذ جامعي متخصص - الأردن
طرح الفلسطينيون، في أعقاب فوز حركة حماس في
الانتخابات التشريعية، ببراءة ممزوجة بالخوف والريبة ومعبرة عن
الانطباعات الأولى
جملة من التساؤلات من نوع: كيف استطاع عدو لدود لإسرائيل وللولايات
المتحدة وغريم
للسلطة أن يصل إلى السلطة وبالأغلبية دون تدخل من القوى المهيمنة؟ ولماذا
لم تحل
إسرائيل والقوى المتنفذة عالميا وإقليميا دون فوز جماعات يصفونها
بالإرهابية، بل
ويثنون على نزاهة الديمقراطية الفلسطينية؟ ولماذا تقبل حركة فتح بالنتائج
وتتنحى
لصالح غريمتها بينما يشهد تاريخها أنها لم تتنح مطلقا عن دفة القيادة
باعتبارها
صاحبة الشرعية الثورية التاريخية كما يروج قادتها دوما؟ وهل تتجه حماس
للاعتراف
بإسرائيل حتى يقبلوا بها؟ لا شك أنها أسئلة مشروعة حتى وإنْ كانت الإجابة
عليها
صعبة.
ورغم أن التساؤلات لا تعني بأية حال رفض الفلسطينيين
لحماس كحركة موثوقة في التعبير عن مصالحهم، إلا أنهم باتوا أسيرين لكثير
من الغموض
والقلق وحتى الذعر بشأن مستقبل القضية الفلسطينية لاسيما حين يكون من
الصعب مجرد
التفكير بأن حماس ستعترف بإسرائيل ناهيك عن القبول بذلك، وفي المقابل فإن
كل ما
قدمته حماس مجرد طمأنة بأن الغموض الذي تمارسه مقصود ومدروس!؟
على كل حال، فلئن تفاءل الناس خيرا وما زالوا فهذا
من حقهم، غير أن الرغبة في التغيير والأمل في الجديد لن يوقف القلق
والتوتر والخوف
ليس بسبب الضغوطات الظالمة، التي تتعرض لها الحركة ومن ورائها الشعب
الفلسطيني الذي
يشعر أن قضيته آخذة في الانحسار من مظلمة القرن العشرين إلى راتب وحتى
رغيف خبز إن
لم يكن حبة قمح، بل لأن فوز حماس أيضا يعني بداية لحقبة تبدو للعيان غير
مألوفة
فلسطينيا ولا عربيا ولا دوليا. فالبنية التحتية التي ستتعامل معها حماس
هي بنية
علمانية بامتياز، وعلى هذا الأساس تعامل معها العالم بكل مدخلاتها
ومخرجاتها، فكيف
ستتعامل حماس مع بنية من هذا النوع؟ وكيف سيتعامل العالم معها ؟ وعلى أية
أسس؟ هذه
المسائل في الواقع ليست مطروحة حاليا بقدر ما يتوجب على حماس الإجابة
عليها إذا ما
سئلت عنها.
ولكن ما يتراءى للناس وللمراقب من غموض، تفسره مصادر
فلسطينية مطلعة بأن القضية الفلسطينية مقبلة على نوع من الجمود، طوال
فترة حكم
حماس، يلبي رغبة جميع الأطراف المعنية، مع أن لكل منها حساباته وأمانيه،
فبالنسبة
لحماس لا يبدو أنها قانعة بغير التغيير والإصلاح ما أمكن ذلك، لذا
فالاعتراف
بإسرائيل لا يقع ضمن حساباتها حتى اللحظة. أما بالنسبة للعرب فلأنهم ملوا
من الجمود
والتعامل مع قيادة فلسطينية استهلكت سياسيا وأيديولوجيا وشعبيا، فالتغيير
قد يسمح
بتحريك الوضع من خلال تفعيل المبادرة العربية والتي تمثل شرطا للدعم
العربي
والسعودي تحديدا لحكومة حماس، وفي هذا ما يفسر الإصرار العربي على وجوب
اعتراف حماس
بإسرائيل وبكل الاتفاقات الموقعة معها ووقف العنف كي يمكن القول بوجود
شريك فعلي
جاهز لتوقيع اتفاق سلام. أما بالنسبة لإسرائيل التي لا تعنيها المبادرة
العربية
فالأربع سنوات القادمة ستمكنها من ضم أكبر مساحة ممكنة من الضفة الغربية
بحيث تتمكن
من رسم حدودها بالطريقة التي تريد، مما يعني الحيلولة دون انسحاب
إسرائيلي من بقايا
أرض لا تصلح لا لدولة ولا لحكم ذاتي. ومن جهتها فالأرجح أن حركة فتح قبلت
بنتائج
الانتخابات لعجزها عن الفوز في الوقت الذي برعت فيه حماس في فرض
الديمقراطية
ومحاصرة التزوير المحتمل ومفاجأة الجميع فضلا عن أن القدرات التنظيمية
والعسكرية
والجماهيرية لحماس، وهذا هو الأهم، شكلت واقعا ضاغطا غير مألوف لحركة لم
تعتد مطلقا
تداول السلطة، واستطاعت بها أن تحيد أعتى القوى الفلسطينية التي دخلت
الانتخابات
وهي ممزقة شر تمزيق.
أما عن التلاعب في الساحة الفلسطينية فقد لوحظ أن
وسائل الإعلام تتناقل بين الحين والحين تصريحات عن قادة حماس تفوح منها
روائح
الاعتراف بالأمر الواقع وحل القضية الفلسطينية من خلال توقيع معاهدة سلام
مع
إسرائيل. وقد بدا ذلك فعلا في ردود السيد خالد مشعل على أسئلة صحافية في
المؤتمر
الصحفي الذي عقده في دمشق بعد فوز حماس ليعلن فيه بوضوح أن الحركة تؤمن
بالتدرجية
والواقعية، وهو كلام لم نسمعه من قبل ولم نألفه مطلقا من الحركة التي
اتخذت من
تحرير فلسطين من النهر إلى البحر شعارا لها ومن العقيدة مرجعيتها، ثم تلا
ذلك
تصريحات نشرتها صحيفة الـ (واشنطن بوست) ونسبتها إلى إسماعيل هنية يقول
فيها: " إذا
ما أعلنت إسرائيل أنها ستمنح الشعب الفلسطيني دولة وتعيد لهم كافة حقوقهم
فنحن
مستعدون للاعتراف بها ". ولم يطل الوقت حتى أتبع السيد هنية تصريحاته
التي نفتها
حماس ببيان رسمي في حينه بأخرى من العيار الثقيل خلال مقابلة بثتها محطة
(سي بي اس)
الأمريكية (17 / 3 /2006) قال فيها ردا على سؤال بشأن دعوته يوما إلى
البيت الأبيض
لتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل: نأمل ذلك، مشيرا: نحن لسنا شعبا
متعطشا للدماء. نريد
وقف الاقتتال (..)، إن جاء أحد أبنائي ليقول لي أنه يريد أن يصبح شهيدا،
لا يمكنني
أن أباركه، وأن يديه غير ملطختين بالدماء، وإنه لم يصدر أوامر بتنفيذ أي
عملية
عسكرية أو هجوم على إسرائيل.
وقد تبين لنا أن هذا التصريح الأخير لهنية لم تنفه
حماس ولم تعلق عليه جهات أخرى! بل أن الرجل تم تقويله بما لم يقله أبدا.
وفي وقت
سابق نشرت صحيفة فلسطينية إلكترونية أربعة أخبار، يفصل الواحد منها عن
الآخر يوم أو
يومان، كان أولها إعلان محمد غوانمة عن تشكيل المجلس الإسلامي الشيعي
الأعلى في
فلسطين ثم تبعه خبر انفراد الصحيفة بأول مقابلة مع غوانمة باعتباره رئيس
المجلس
المذكور ثم خبر استدعائه من قبل المخابرات الفلسطينية للتحقيق معه وأخيرا
خبر حل
المجلس وإلغائه. وقد تبين لنا أيضا أن الرجل بريء من هذا الموضوع براءة
الذئب من دم
يوسف. فما الذي يريده هؤلاء من الكذب والتحريض على الفتنة؟
لقد بات في حكم المؤكد، استنادا إلى مصادر فلسطينية،
أن هناك فئات فلسطينية لا تعنيها فلسطين ولا القضية الفلسطينية إلا
بالقدر الذي
يخدم طموحاتها وفسادها، ومثل هذه الفئات ما زالت تتلاعب حتى الآن، وبدعم
من قوى
خارجية، في الساحة الفلسطينية على مختلف المستويات بدء من المستوى
التنظيمي وانتهاء
بالحياة اليومية للفلسطينيين، وليست قضية المجلس الشيعي ولا التصريحات
المنسوبة إلى
إسماعيل هنية إلا أمثلة من النوع المنحط لهؤلاء الذين يسعون إلى تجريم
المقاومة كما
جرموها من قبل وخلال الانتفاضة الأخيرة، بل ويجهدون لتحويل حماس إلى حركة
خارجة عن
القانون إذا لم تلب ما يسمونه بالشروط الدولية أو توريطها بحيث تفقد
ميراثها
الأخلاقي ليتساووا معها.
إن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يعيشه
الفلسطينيون في هذه الأيام من فقر وبطالة وشعور بالضياع وقلق الرواتب
وبؤس الوضع
التنظيمي والفلتان والرغبة في التمرد والرفض هو أسوأ من ذاك الشعور الذي
سبق توقيع
اتفاق أوسلو أواخر العام 1993، فالخطر يأتي من الاعتراف بإسرائيل التي
سبق وانتزعت
من منظمة التحرير اعترافا بحقها في الوجود مقابل اعتراف بأن المنظمة هي
الممثل
للشعب الفلسطيني دون كلمة الشرعي ولا الوحيد ولا حتى بحقوق الشعب
الفلسطيني، ومع
ذلك فالاعتراف كان منقوصا قانونيا واجتماعيا لأنه لم يعبر عن كل فئات
الشعب
الفلسطيني في شتاته وأطيافه الأيديولوجية والسياسية، ولأنه كذلك فإن
إسرائيل تبحث
الآن عن استكمال هذا الاعتراف من قبل الشق الرافض لها حتى يتوقف الطعن في
شرعية
وجودها من أصحاب العلاقة المباشرة، وكي تتفرغ للآخرين من العرب
والمسلمين.
أما أولئك الذين يطالبون حماس بالاعتراف بإسرائيل
فعليهم أن يدركوا أنهم يلعبون بنار ستحرق الجميع، ومن
الأولى لهم أن يحتموا بحماس ويتحصنوا بتاريخها
ونظافتها بدلا من دفعها إلى الانتحار وإدخال المنطقة في أتون
حروب طاحنة، ذلك أن إكساب إسرائيل الشرعية القانونية
والاجتماعية أو السياسية والإقليمية ليس لعبة
يجيد السياسيون وحدهم قوانينها، فإسرائيل لما تزل بعد جسم غريب
ومجهول حتى هذه اللحظة بالنسبة لمواطن عربي يبدو للعيان
نائما فلا توقظوه.
|