الصمت مقابل القتل

بروفيسور عبد الستار قاسم

1/تشرين ثاني/2005

تريد إسرائيل أن تنعم في قتل الشعب الفلسطيني، وأن يرد عليها الشعب الفلسطيني خاصة والعرب عموما بالصمت. هذه هي السياسة الأمنية التي تعتمدها إسرائيل عبر المراحل المختلفة للصراع العربي الإسرائيلي. إنها تعتبر نفسها صاحبة حق، وتعتبر الأمن حقها وحدها لأن الآخرين قد جبلوا على العدوان وسفك الدماء. إنها لا تخوض صراعا بشأن أرض متنازع عليها، وإنما دفاعا عن أرض خالصة لها بفعل تمليك إلهي قديم؛ وهي لا تقاتل أناسا وإنما حيوانات متوحشة خلقها الرب على صورة البشر.

تكتب التوراة التي بين أيدي اليهود على لسان الرب في وصاياه لموسى قائلة: "احفظ ما أنا موصيك اليوم. ها أنا طارد من قدامك الأموريين والكنعانيين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين. احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخا في وسطك. بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم. فإنك لا تسجد لإله آخر. لأن الرب اسمه غيور. إله غيور هو. احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم فتدعى وتأكل من ذبيحتهم وتأخذ من بناتهم لبنيك فتزني بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن." (خروج، إصحاح 24، 11-16)

وقال الرب لهم: "فتحفظون جميع فرائضي وجميع أحكامي لكي لا تقذفكم الأرض التي أنا آت بكم إليها لتسكنوا فيها. ولا تسلكون في رسوم الشعوب الذين أنا طاردهم من أمامكم لأنهم قد فعلوا كل هذه فكرهتهم. وقلت لكم ترثون أنتم أرضهم وأنا أعطكم إياها لترثوها أرضا تفيض لبنا وعسلا. أنا الرب إلهكم الذي ميزكم من الشعوب...." (لاويين 20، 22-24)

الحديث حول هذا في التوراة كثير، وتزخر به الكتب الأخرى مثل التلمود والمشناة. بالنسبة لهم، تعهد الرب وفعل بأن يطرد الأمم وأن يصعرها خدما عند بني إسرائيل ليس إلا مقابل حفظ الوصايا التي طلبها منهم. أما إذا قرر اليهود عدم حفظ الوصايا فإن الرب سيسلط عليهم عذابا، لكنه سيتضرر أيضا من حيث أنه يبقى رب بلا شعب. إنه الشعب المقدس الوحيد الذي اصطفاه الرب من بين كل الشعوب. ولهذا يحرص هؤلاء على تنفيذ الوصايا القمعية التي تدعو في مواقع توراتية كثيرة إلى قتل الشعوب الأخرى وطردها أو استعبادها.

لم ترفض إسرائيل أن تكون طرفا في التهدئة التي اتفقت عليها الفصائل الفلسطينية مع السلطة الفلسطينية لأسباب سياسية فقط وإنما أيضا وأولا لأسباب عقائدية تحرم الدخول في عهود مع الآخرين. يتحدث القرآن الكريم عن عدم احترام اليهود لعهودهم، وهم يقرون بأنه لا يجوز لهم الدخول في عهود مع الآخرين الذين تعتبرهم التوراة نجسا ودنسا. وإذا نظرنا إلى الاتفاقيات التي وقعتها إسرائيل مع أطراف عربية نرى أنها اتفاقيات أمنية تُلزم الأطراف العربية بالدفاع عن أمن إسرائيل. لم يحقق أي طرف عربي حتى الآن أي فائدة حقيقية من هذه الاتفاقيات، وبقيت القوات العربية مشغولة في مراقبة الحدود لملاحقة المقاومين أو المتسللين نحو أهداف إسرائيلية.

تقول إسرائيل إن لها الحق المطلق في الدفاع عن نفسها وتوفير الأمن لسكانها، ولها الحق تبعا لذلك أن يبقى المجال أمامها مفتوحا لمتابعة شكوكها حول أي مصدر تستشعر منه خطرا. أما العرب، فعليهم أيضا أن يحرصوا على الأمن الإسرائيلي، ولإسرائيل يبقى حق القيام بالأعمال العسكرية الضرورية حيث يفشلون. ولهذا فإن الهدنة أو التهدئة لا تعني الشيء الكثير إن لم يتم قطع دابر كل تفكير بمقاومة إسرائيل. التهدئة هي امتحان للعرب فيما إذا كانوا قادرين على المحافظة على الأمن الإسرائيلي، وليس لرغبة إسرائيل في السلام.

لا تكتفي إسرائيل بالتهدئة، وإنما هي تطلب من السلطة الفلسطينية، كما تطلب الولايات المتحدة، اتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل تدمير البنى التحتية لما يسمى بالإرهاب. بالنسبة لها، ربما تكون التهدئة فرصة ذهبية أمام الفصائل الفلسطينية لإعادة ترتيب أوضاعها وتحسين أدواتها وأساليبها في مواجهة إسرائيل، مما يعني أن التهدئة عبارة عن إضرار بالأمن الإسرائيلي. ولأن السلطة الفلسطينية لا تقوم بما هو مطلوب منها لسبب أو لآخر، تستمر إسرائيل في عملياتها العسكرية ضد الشعب الفلسطيني. بالمنطق الإسرائيلي، هذا دفاع عن النفس. وقد استطاعت إسرائيل أن تقنع دولا كثيرة وفلسطينيين بهذا المنطق حتى عاد من المسلمات التي يجب عدم مناقشتها. وربما لا حظ القارئ أن مسؤولين فلسطينيين من ضمنهم السيد محمود عباس قد قالوا أن على الفلسطينيين ألا يعطوا إسرائيل ذرائع للاستمرار في عدوانها. أي على الفلسطينيين ألا يقوموا بأي رد عل الاعتداءات الإسرائيلية التي تتكرر.

هذا بالتأكيد ما تريده إسرائيل وهو قتل الفلسطينيين دون أي رد فعل حتى لو استنكارا شفويا. هذا منطق ليس غريبا عن القناعات الدينية والأمنية اليهودية، لكنه يثير الاشمئزاز عندما يتحول إلى عقيدة أمنية لدى عرب ومسلمين. لقد وصل الضعف والاستهتار إلى درجة الإقرار بأن العدوان حق، وأن صمت الفلسطينيين إزاءه عبارة عن واجب ومصلحة وطنية عليا. أليس هذا ما أقرته ردود فعل عربية وفلسطينية رسمية في المواجهة الأخيرة بين إسرائيل والجهاد الإسلامي؟

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع