فلسطين بعد عرفات
هطلت اللقاءات الإعلامية والبرامج الحوارية والمقالات الصحفية كزخات المطر
الغزير في يوم برق شديد بفصل شتاء كبيس تنعى عرفات فقيد الوطن والأمة،
مذكرة المشاهد والقارئ بالزعيم الذي صمد ضد الطغيان وصبر على الحصار حتى
قضى شهيدا وليس قتيلا أو أسيرا كما أراد له الأعداء!
ولم يحضر أحد في وسائل الإعلام إلا وكال المديح وعظّم الفقيد واعتبر عرفات
الأب والقائد والمعلم ... وملأت المقالات صفحات الجرائد طولا وعرضا معددة
مآثره، حتى في زوايا القراء وفي صفحات الأدب والشعر اللتين لم يحظ الميت
منهما وباتفاق الجميع بأي حظ ونصيب.
وتيتمت الأمة على حسب كلام شيوخ الفضائيات، وتعرّت من سياسييها الكبار على
حسب كلام أرباب القلم وأصحاب الفكر والرأي، وباتت الأمة أضيع من الأيتام
على مأدبة اللئام، كل ذلك بسبب فقدانها الرئيس عرفات.
هذا هو ما صوره الإعلام المرئي والمسموع والمقروء على حدّ سواء، بصدد وفاة
رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات عن عمر يناهز 75 عاما. وبما أن للموت
حرمة وهيبة تمنع الحديث إلا عن محاسن الموتى، فإنني سأوقف مقالتي على ذكر
وقائع عامّة يفخر بها أصحاب عرفات ويعتبرونها من محاسنه الصافية، إذ كان
جريئا في مصافحة الأعداء وكسر الحاجز النفسي مع اليهود المغتصبين، مرورا
بالتنازل عن 80% من أرض فلسطين إلى غير ذلك من قرارات خطيرة لها أثرها
البالغ على قضية فلسطين. أكتب ذلك من باب إنعاش ذاكرة الأمة والوقوف على
مفاصل في حياة عرفات، ترينا إن كان حقا ما عرضه ذلك الإعلام من صورة لفارس
النضال، أم أنه تلبيس جديد على أمة لم تعرف إلا الزيف منذ أكثر من قرن.
فعرفات هو ذلك الرجل الذي لعب الدور الأبرز في حياة الشعب الفلسطيني منذ أن
ظهر على السطح، وقد أمسك بقوة وثقة كبيرتين بكافة خيوط منظمة التحرير
والسلطة إثر نشوئها.
وترجع تلك السيطرة إلى الغطاء السياسي والدعم المالي الكبير له، من قبل
أغلب الأنظمة السياسية القائمة في العالم العربي. وعلى وجه التحديد تلك
الأنظمة العربية التي سارت في ركاب بريطانيا وكانت خاضعة لها، كدول الخليج
العربي التي احتضنت عرفات ومنظمته وأغدقت عليهم الأموال.
فعرفات هو جزء من تلك الطينة السياسية التي عمّت العالم العربي إثر نهاية
فترة الانتداب البريطاني الفرنسي، والتي انقسمت في ولائها للغرب على الأغلب
بين تابع للمستعمر الجديد أمريكا أو متمسك بأعتاب المستعمر القديم
بريطانيا. والمتابع لسيرة عرفات يرى أنه كان يقوم بأعمال سياسية تصادم
مصالح أمريكا في المنطقة ولذلك كرهته وسعت لإسقاطه، بالمقابل كان منسجما
تماما مع رؤية بريطانيا وأفكارها وطروحاتها السياسية سواء فيما يتعلق بقضية
فلسطين أو بقية القضايا الساخنة في المنطقة. ولذلك لاقى ذلك التأييد الكبير
من رجالاتها. بينما كان يضغط عليه رجالات أمريكا وحاولوا مرارا تحجيم دوره
وتفتيت منظمته.
ومن هنا فإن عرفات كان صاحب نهج مفهوم في الأداء السياسي، وهو ليس رجلا
ارتجاليا أو عشوائيا كما يتوهم البعض، بل لعلّه كان مقصودا إظهار بعض
التصرفات والقرارات بشكل ارتجالي حتى "تضيع الطاسة" وتنعدم المحاسبة، وتضيع
فلسطين "بروح أخوية مرحة".
إنه لمن الجدير ذكره هو أنه عندما نشأت منظمة التحرير الفلسطينية، شكلت
حركة فتح برئاسة أبو عمار عمودها الفقري، وكان الهدف المعلن لها هو تدمير
دولة إسرائيل وتحرير حيفا ويافا وعكا واللد والرملة، أي باختصار تحرير
أراضي فلسطين التي قضمت عام 1948م، إذ أن أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة
والقدس الشرقية تمّ احتلالها عام 1967م أي بعد نشأة حركة فتح عام 1965م
ومنظمة التحرير عام 1964م. وقد كانت الغاية العليا لمنظمة التحرير: هو
إقامة دولة فلسطينية علمانية "ديموقراطية" على كامل أراضي فلسطين تكون
عاصمتها القدس حصرا، يتساوى فيها المسلمون واليهود والنصارى على كل
المستويات، وتعيد اللاجئين الفلسطينيين المشتتين في مختلف أنحاء العالم
إليها. وكان يعتبر العدول عن هذه الغاية أو مجرد الاعتراف بدولة إسرائيل
بمثابة خيانة عظمى يستحق مخالفها القتل وتقطيع الأوصال.
رحل عرفات عن الدنيا بعد 40 عاما من سيرة عامرة بين الثورة والثروة وتركيبة
مبرمجة من الفساد المنظم على الصعيد الإداري والسياسي والمالي لم ينفه
عرفات نفسه، وشهد بذلك الأصحاب والخصوم على حد سواء.
وبعيدا عن التفاصيل فإنّ أهم ما خلّفه عرفات وراءه هو:
• عدم تحرير أي شبر من أراضي فلسطين المغتصبة عام 1948م.
• اعتراف بدولة إسرائيل ضمن حدود السابع من حزيران 67، وإسباغ الشرعية
عليها، واعتبار الاعتداء عليها إرهابا وخروجا عن القانون.
• عدم إقامة دولة فلسطينية على أراضي الضفة والقطاع التي كانت أصلا بيد
العرب عندما نشأت المنظمة.
• إخراج فلسطين من كونها قضية الأمة ومسؤولية القوى المؤثرة وأنظمة الحكم
المتسلطة فيها، التي حاولت التخلص من عبئها بصناعة منظمة التحرير وإمدادها
بأسباب البقاء وتعزيز القرار الوطني الفلسطيني "المستقل" عن بقية الأمة
"ليصطفلوا بفلسطين بدلاً من لومهم ومؤاخذتهم على تقصيرهم".
• خلف سلطويين وراءه يرون حل كارثة الأمة في فلسطين بإيداع القضية البيت
الأبيض، الخصم اللدود لأهل فلسطين وللأمة الإسلامية جمعاء، والحليف الصدوق
لدولة إسرائيل والداعم الأول لها.
هذه هي خلاصة حصاد أربعة عقود من سيرة عرفات كزعيم لشعب امتلك زمام أموره
وكان صاحب القرارات المصيرية فيه.
واستنادا إلى هذه الوقائع نستطيع أن نجزم بأن قضية فلسطين تسير بتؤدة إلى
وأدها على أيدي فئة، ورثت الفشل بكل معانيه، وكانت شريكة في إعداده وتقديمه
لأهل فلسطين. فئة تعدّ نفسها أكثر براغماتية من عرفات الطاعن في السن، الذي
أصبح كتلة من التاريخ، المعرقل للحاضر والمستقبل، الذي لم يرتق إلى مستوى
التنازلات المطلوبة. فئة تريد أن تحل أكثر قضايا الأمة حساسية في القرن
الأخير، مع أن عبقريتها تجّلت بحصر أكبر همها في تحقيق أكبر قدر من المصالح
الشخصية على مدار عقود. كما أنها تتمتع بكامل مقومات ثقافة الهزيمة، وحكمة
الانبطاح للواقع والقبول بأسوئه. فئة "ما أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا
سبيل الرشاد"، فهم المصيبون دوما، الراشدون، العاقلون، الفاهمون لخبايا
الأمور، والمبصرون بالسياسة الإقليمية والقومية والدولية والكونية، ولعلهم
اطلعوا على أسرار الكون التي لا تخفى على أمثالهم. ومن هنا فإنهم لن
يستبطئوا حلا يعرض عليهم ولو كان بإلقاء فلسطين أبدا في بطن شارون وإقامة
دولة ثنائية القومية كما سبق وهدده قريع سابقا، واعجبا لمثل هذا التهديد!
لا شك بأن قضية فلسطين باتت تشكل موضوعا ذا أهمية خاصة، بالنسبة للعالم
كله، ولذلك قامت مراكز بحوث عالمية بدراسات معمقة عنها، وما زالت تبحث عن
إيجاد حل ما لها لتقدمه لصنّاع القرار في أوروبا وأمريكا، والتي تستطيع أن
تسوقه إلى كافة الأطراف على اعتباره الحل الأمثل للجميع. ولقد كان هذا
تماما هو موضوع النقاش مع مدير أحد أهم مراكز الأبحاث في العالم المعروف
باسم
International
Crises Group
الأسبوع المنصرم. حيث طرح عدة أسئلة يستفسر من خلالها عن وجهة نظر حزب
التحرير في عملية السلام في الشرق الأوسط ومستقبلها، وعن كيفية تعاطي دولة
الخلافة عندما تقوم مع هذه العملية ومع دولة إسرائيل، وكان لنا حديث طويل
أقتصر منه على ما له علاقة بموضوع فلسطين، حيث كان الجواب على تساؤلاته على
النحو التالي:
1. إن إتمام أية عملية سلام في الشرق الأوسط لن تكون أكثر من تسوية مؤقتة.
ينظر إليها عموم المسلمين على أنها اتفاقية ذل تذكرهم على الدوام بواقعهم
المخزي والمذل والمهين الذي فرض عليهم أن يسلموا أكثر فلسطين مقابل تحقيق
نيل رضا الغرب عن حكامهم وإبقائهم في كراسيهم.
2. إنّ أي اتفاقية تعقد، سيكون استمرارها رهناً بوجود الواقع الذي أنتجها،
فإذا ما تحقق أي تغيير حقيقي وجوهري في العالم العربي أو العالم الإسلامي
فسيُلقى بهذه الاتفاقية بعد تمزيقها إرباً في سلة المهملات.
3. إنّ دخول العرب في عملية التسوية ومحاولة تسويق البعض لها، لم ينتج يوما
عن قناعة ما بها، إنما هي رضوخ واستسلام للأمر الواقع. وأنه في حال ما سئل
أحد من المفاوضين الحاليين، أنه لو كان بإمكانه إزالة دولة إسرائيل من
الوجود، فهل كان سيقبل بها أو يقيم معها اتفاقية تضمن بقاءها؟ فسيكون جوابه
حتما بالنفي، لأنه لن يستطيع آنئذ مجابهة الرأي العام الرافض لهذا الكيان.
4. إن إقامة الخلافة تعني وحدة الأمة الإسلامية وتغير واقعهم الحالي الذي
يتحكم الغرب فيه. وموضوع استعادة أي أرض اغتصبت من المسلمين هو أحد
واجباتها الشرعية. فكيف إذا كانت الأرض السليبة هي فلسطين، التي يوليها
المسلمون أهمية خاصة، بما فيهم أولئك الذين احتلت ديارهم كما هو في العراق
وأفغانستان وكشمير، حيث يؤثر هؤلاء الجهاد من أجل تحرير فلسطين على تحرير
أوطانهم المحتلة، لما لها من عظيم قيمة في نفوسهم، رسخها الإسلام فيها
وجذرها.
5. استنادا لما سبق ذكره فإنّه لا أمل لدولة إسرائيل بالبقاء في المنطقة،
مهما عقدت معها اتفاقيات ومنحت من مواثيق. كما إنّ موضوع إنهاء وجود دولة
إسرائيل هو من الأمور التي ليست محل نقاش لدى المسلمين، حتى ولو تم تجاهل
رأي حزب التحرير في هذه المسألة، فهذه وجهة نظر الإسلام التي يتبناها
المسلمون وتعتبر من مسلماتهم، وينتظرون الفرصة السانحة لتطبيقها.
6. وعن كيفية التعاطي مع القاطنين في فلسطين من اليهود، عند إقامة الخلافة،
فالبيان فيه أنه قد سكن فلسطين عدد من اليهود قبل إقامة دولة إسرائيل، فإن
تبرأ هؤلاء من دولة إسرائيل وثابوا لرشدهم وطلبوا عفو الدولة الإسلامية
عنهم، فيرجع الرأي والقرار في كيفية التعاطي معهم إلى رئيس الدولة بحسب
الحكم الشرعي المتبنى، و تنظر الجهات المختصة في كل واقعة على حدة. وأمّا
من أتى من يهود من خارج فلسطين فعليه الرجوع من حيث أتى حالا. وإذا ما رغب
أحد منهم بالعودة إلى فلسطين بعد إقامة الخلافة، فعليه أن يقدم طلب تصريح
ليأخذ الإذن (فيزا)، وتتعامل الدولة الإسلامية معه بحسب قوانين الهجرة كما
هو الحال في أي دولة في العالم.
هذا هو واقع قضية فلسطين التي غادرها ياسر عرفات بعد أن أوصلها ورفاق دربه
إلى طريق مسدود، الرضوخ للواقع عندهم هو الرأي الأمثل "للحل الشامل" أو قل
للانهيار الكامل. فهل يعي أهل فلسطين هذه الحقائق ويعيدون القضية إلى حضن
أمتهم وينبذون سلطة العار التي بناها حكام العرب بالنيابة عن الغرب وأمدوها
بأسباب البقاء!؟ وهل تثوب الأمة لرشدها فتدفع أصحاب التأثير والقدرة على
تغيير الحكام فيها ليقيموا دولة الخلافة التي تضع حدا للانحدار المتسارع
للمسلمين أمام أعدائها؟
هذا هو السؤال الذي بات بحاجة إلى إجابة عملية من قبل جميع الفئات المخلصة
والصادقة حتى ينقذوا فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين، ويوقفوا ذلك النزيف
الجاري أنهارا من دماء هذه الأمة، بعيدا عن كل ذلك التضليل الإعلامي الذي
يعكس الأمور ويقلب الحقائق.
حسن الحسن - المملكة المتحدة
|