التخلص من الدعم الغربي
بروفيسور عبد الستار قاسم
5/شباط/2006
ربما أيقن الفلسطينيون الآن وبعد فوز حماس أن الاعتماد على المال الغربي
لتسيير الحياة اليومية ليس بالعمل الحكيم. الأمريكيون والأوروبيون
يهددوننا بلقمة خبزنا، ويريدون معاقبة الشعب الفلسطيني على اختياره. كأنه
كان من المطلوب أن يتأدب الفلسطينيون، وأن ينحنوا مقبلين للأيدي التي
تمدهم بالطعام. بهذا لا يخالف أهل الغرب منطق التاريخ على الرغم من أنهم
يخالفون المنطق الإنساني. في المنطق الإنساني، يتم تقديم المساعدات
لأسباب إنسانية فقط وخالية من أية أهداف اجتماعية أو سياسية، الخ؛ أما
وفق المنطق التاريخي، فإن المساعدات تخدم أغراض الذي يقدم المساعدة،
والذي يضع عادة شروطه أو مطالبه مسبقا، وهكذا تبقى اليد ممدودة ما دامت
الاستجابة للشروط قائمة.
لم يقدم الغرب لنا العون المالي والمادي من أجل عيوننا السوداء، ولا لأنه
يريد أن يتبارك بنا، وإنما كمكافأة على مواقفنا تجاه إسرائيل. مع توقيع
اتفاق أوسلو وقدوم السلطة الفلسطينية، تحولت مسؤولية دعم الفلسطينيين
ماليا إلى أهل الغرب وذلك ليكون المال صمام أمان يضمن انصياع الفلسطينيين
للإرادة الغربية-الإسرائيلية. كان من المهم لأهل الغرب أن يعرف
الفلسطينيون أن المال الغربي هو وحده الذي يمكنهم من شراء الحليب
لأطفالهم، وأن التمرد لن يأتي عليهم إلا بالجوع وضنك العيش. طالما كتب
فلسطينيون حول هذا الموضوع ومنهم كاتب هذا المقال، لكن أناسا كثرا أرادوا
العاجلة ولم يكترثوا بما نقول.
حرص أهل الغرب على ضرورة زيادة أعداد الناس الذين يتلقون رواتب وفوائد من
دعمهم المالي، وذلك للسيطرة على قرار أكبر عدد من العائلات الفلسطينية.
فتحوا المجال أمام السلطة الفلسطينية لتوظيف أعداد كبيرة من الناس الذين
لا عمل لهم. عشرات الآلاف تم تعيينهم في الأجهزة الأمنية، وتضخم الطاقم
الوظيفي في مختلف المؤسسات بطريقة ساهمت إلى حد كبير بصناعة الفساد. لم
يكن لدى الغرب، وهو يعرف فساد مثل هذه السياسة، مانع من تخصيص المال
اللازم ما دامت إرادة الموظف ستتلاشى تحت وطأة الراتب. تحدث الأمريكيون
والأوروبيون عن الإصلاح، لكنهم كانوا دائما كاذبين لأنهم يعرفون أن
الفساد هو الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى إنجاح أوسلو. كانوا على يقين بأن
امرأة فاضلة، أو رجلا فاضلا لا يمكن أن يصافح الإسرائيليين أو أن يساوم
على حقوق الشعب، ولا مفر من الإفساد والبحث عن فاسدين.
بدأ الغرب بتذكير الفلسطينيين بالراتب مجرد أن قررت حماس خوض انتخابات
التشريعي، وأطلق التهديدات المتتالية بعد فوز حماس. طبعا لم تتلكأ وسائل
الإعلام العربية المرتبطة بالغرب والأنظمة عن دعم التهديد الغربي، وهكذا
فعل فلسطينيون وحكام عرب. أرادوا صنع هلع في الشارع الفلسطيني من أجل
إرباك حماس وتأليب الناس ضدها. وبالفعل أخذ أناس كثر يتساءلون عن مصير
لقمة خبزهم.
مع ثقتي بأن حماس ستتدبر الأمر، ولن تعجز عن توفير المال اللازم؛ ظني أن
عربا ومسلمين سيقدمون دعما سخيا. لكن الأهم من ذلك هو أن يدرك الناس بأن
الاعتماد على الآخرين عبارة عن كارثة وخطر محدق يلحق بنا أضرارا كبيرة
ويطوع إرادتنا وقرارنا للآخرين. الأمر الأكثر أهمية هو أن أكون مستقلا
باتخاذ قراري، وألا أكون عرضة للضغط فيما إذا قررت مخالفة الآخرين أو
الخروج عن رأيهم. أما لقمة الخبز فلا يعجز الأحرار عن تدبيرها. دول كثيرة
مدت يدها للآخرين، وفضلت أن تبقى صاحبة اليد السفلى، لكنها فقدت في
المقابل قدرتها على اتخاذ قرارها الذي يتناسب مع مصالحها ورؤاها.
نحن أشد الشعوب حاجة إلى تحرير إرادتنا من سطوة الآخرين لأننا أصحاب قضية
تتعرض للتآمر والمؤامرات والسياسات المعادية. يجب أن نحرص بجد وأمانة على
أن نكون أسياد أنفسنا دون أن نقطع أواصر التعاون مع كل الذين يؤيدوننا في
مسعانا نحو تحرير وطننا واسترجاع حقوقنا. رفعت القيادة الفلسطينية بخاصة
بعد حرب عام 1982 شعار القرار الوطني الفلسطيني المستقل، ولم يتحقق منه
سوى الأهازيج التي تخفي الحقيقة.
هذه بلاد مباركة، ولم تبخل أبدا على مواطنيها بفولها وعدسها وقثائها
وزيتها وأنعامها. البلاد كريمة، ونحن بحاجة ماسة إلى السواعد العاملة
التي تقطف ثمار هذا الكرم. علينا أن نشمر عن سواعدنا لنحرث الأرض ونحفر
الصخر ونزرع الشجر. من المطلوب أن نختط سياسة اقتصادية جديدة تكرس مبدأ
الاعتماد على الذات. صحيح أننا تحت احتلال وسنلاقي الصعوبات والعقبات،
لكن دعونا نحاول، ونحن بالتأكيد لا نريد أن نفشل قبل المحاولة. علينا
العودة إلى الأرض وإلى الحرف والمعامل الصغيرة علنا نحقق خطوات نحو
الاكتفاء الذاتي. من الصعب جدا أن نحقق اكتفاء لأسباب كثيرة على رأسها
وجود الاحتلال، لكن الاستكانة أشد خطرا من الاحتلال.
لا ننسى أن هناك عربا ومسلمين يريدون مد يد العون لنا. فلسطين بلد عربي
إسلامي، والأقصى ليس مقدسات فلسطينية فقط. إننا نذكر كيف أن بعض نساء
العرب قد تبرعن بحليهن دعما للفلسطينيين، وكم من الرجال تركوا القليل
لأهل بيوتهم. تلك القطعة الفضية التي أحاطت يوما بعنق عربية فيها من
الكرامة والبركة أكثر بكثير مما يمكن أن تبشر به أموال الغرب.
الرزق على الله، ويجب ألا نتراجع أو نتردد. إن أحسنا السياسة المالية،
وأعتقد أننا سنحسن، فإننا سنقتسم الرغيف وسنتقاسم الآلام. مهم أن تتوفر
لدينا إرادة بناء الأسرة الواحدة والمجتمع المتكافل والمتضامن؛ ويبقى
العدل مع الفقر أفضل بكثير من الظلم مع الثراء.
عندما نعتمد على أنفسنا وتتطور قدراتنا فإن الغرب سيدفع المال لنا، إنما
ليس كمكافأة على تنازلاتنا وإنما كتعويض عن الأذى الذي ألحقه بنا.
|