حماس بعد شهر من الانتخابات
منير شفيق
شهر مضى تقريبا على انتخاب الشعب الفلسطيني في الصفة الغربية وقطاع غزة
لحماس بأغلبية كبيرة لقيادته وتسلم زمام السلطة. وهذا ما لا بد أن ينعكس
على المجلس الوطني لمنظمة التحرير، وفقا لاتفاق القاهرة بين فتح وحماس
وبقية الفصائل بأن يجرى تحديد أعضاء المجلس الوطني وفقا للنسب التي
تفرزها الانتخابات في الضفة الغربية وقطاع غزة.
هذا يعني أن الوضع الفلسطيني كله دخل مرحلة جديدة، وبمعادلة داخلية جديدة
تختلفان نوعيا وجذريا عن المرحلة السابقة، وعن المعادلة الداخلية التي
اتسمت بقيادة حركة فتح.
ويستتبع ذلك، نظراً لموقع فلسطين وقضيتها وشعبها من الأمة العربية
والإسلامية، ونظرا لموقع الدولة العبرية والصهيونية في الإستراتيجيات
الدولية، وعلي الخصوص الأميركية والأوروبية، أن هذا الانقلاب (الثورة) في
المرحلة التاريخية الراهنه، وفي موازين القوى الداخلية الفلسطينية، وضمن
مشروعية نالتها حماس من خلال صناديق الاقتراع يعني بدوره تغييرا نوعيا
وجذريا على كل المستويات فلسطينيا وإسرائيليا وإقليميا ودوليا.
وليس أصدق تعبيرا من هذا الحدث الضخم من متابعة ردود الفعل المختلفة
أميركيا وإسرائيليا وأوربيا ثم عالميا.
ولندع جانباً ما وصف به من أنه صفعة قوية للسياسة الأميركية، وانقلاب
تاريخي وزلزال وإعصار وتسونامي، ولنلحظ انصباب الضغوط على حماس والشعب
الفلسطيني، وأولها أن عليها أن تعترف بإسرائيل مع أنها ليست دولة، أو
تعترف بحق إسرائيل في الوجود (وهل هذا طلب ممن يملك الحق في فلسطين
ليعطيه أم هو مجرد اعتراف ملتبس يتضمن ذلك، لأن الاعتراف به علنا يعني
اعترافا بحقوق الشعب الفلسطيني المتجاهلة والمنسية) ثم إن عليها أن تتخلي
عن العنف (أي أن تسلم بأنها ليست مقاومة، وأن ليس هناك من عنف في فلسطين
غير عنفها).
أما إذا لم تبادر إلى تلبيس هذين المطلبين فسوف تحجب المساعدات الأميركية
والأوروبية، ويضرب الحصار المالي بالضغط على الدول العربية (مفهوم ضمنا).
وستقاطع وتفرض عليها وعلى السلطة حتى لو كانت تمثل وحدة وطنية عزلة
دولية، إلى جانب التهديد باستمرار الاعتداءات الإسرائيلية والتلويح
بالاجتياح.
وقد جاءت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مسرعة إلى المنطقة
لتأمين ضغط عربي على حماس حول المطلبين المذكورين، والأهم التقيد بحصارها
ماليا.
وكانت قد مارست ضغوطا على رجب طيب أردوغان كي لا يقابل خالد مشعل رئيس
المكتب السياسي لحركة حماس والوفد المرافق له، بل الهبوط بالدعوة إلى
مستوى دعوة من حزب التنمية والعدالة، رغم الموقف التركي الضاغط للاعتراف
والتخلي عن العنف، كما مورست وتمارس ضغوط مماثلة على روسيا التي بادرت
إلى دعوة حماس.
وفي الإطار العربي والإسلامي وعلى المستويين الرسمي والإعلامي (كتاب
المقالات والمعلقين)، هناك من انزعج من انتصار حماس ربما أكثر من إدارة
بوش ومن راح يطالبها بالاعتراف بإسرائيل والتخلي عن العنف من أجل إفلاتها
من المأزق مع التهويل الشديد، وهناك من دار حول هذه المعاني إشفاقا على
حماس ولم يرد لها مكيدة.
ومشكلة هؤلاء الناصحين المشفقين وقوعهم في نوع من الرهاب من أميركا
وإسرائيل وعدم تصورهم إمكان وجود خيار آخر غير الخيار الذي سارت عليه فتح
وصوت الشعب الفلسطيني بعد تجارب مريرة ضده.
المأزق والأزمة عبارتان يمكن أن يوصف بمواجهتهما أي أحد، المهزوم
والمنتصر، المتراجع والمتقدم، الهابط والصاعد، والراكد والمتحرك.
ولهذا يجب التفريق بين الصاعد أو المنتصر أو المتقدم أو المتحرك وهو
يواجه المأزق بل مآزق أو الأزمة بل أزمات، من جهة ومن يواجه المآزق
والأزمات وهو مهزوم ومتراجع أو هابط أو راكد من جهة أخرى.
فحماس من النوع الأول بالتأكيد، ولهذا يجب أن يوضع حديث المأزق والمآزق
والأزمة والأزمات جانبا، لأن الكل عنده من ذلك ما يكفيه وأكثر من الجميع
الآن الرئيس الأميركي جورج بوش وحزب كاديما الإسرائيلي وزعيمه الجديد
أولمرت وآنس حالة شارون ولا شماتة.
ما توجهه حماس يجب ألا يسمى مأزقا أو أزمة وإنما كيفية حل المعضلات والرد
على التحديات.. أي مشكله صوغ السياسات المناسبة الصحيحة على كل مستوى،
وهو أمر في متناول اليد، ويجب أن يكون في متناول اليد.
لعل ميزة حماس على حركة فتح عندما ووجهت بضغوط مماثلة ابتداء من الاعتراف
مرورا بإدانة الإرهاب (رسالة عرفات الملحقة باتفاق أوسلو)، هي وجود تجربة
فتح أمامها في حين كانت فتح محرومة من تجربة سابقة لما كان يطرح عليها من
الأعداء والكائدين أو من الناصحين والمشفقين أو من بعض الأصدقاء كالاتحاد
السوفياتي، أو بعض الأشقاء كمصر بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول ثم توقيع
المعاهدة المصرية الإسرائيلية.
ولهذا أمكن استدراجها (والبعض فعلها عن حسن نية دون تقدير للعواقب) خطوة
بعد خطوة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في الانتخابات الأخيرة.
والأهم أنها أصبحت معرضة لأن تفقد تحت قيادتها وخطها السياسي أجزاء كبيرة
من الضفة الغربية، أي كل ما ضمه الجدار وابتلعته المستوطنات، والقدس
والحدود والمياه الجوفية ثم الوجود فوق الأرض مقطعة مسجاة بالجدار أو
الأسلاك الشائكة أو الحواجز أو الطرق الالتفافية وأخيرا وليس آخرا، ذلك
هو حل الدولتين أو الحل النهائي.
ولا أحد يتحدث عن حق العودة أو السيادة فضلا عن خطر التهجير الجديد
"الطوعي" في ظل حل نهائي كهذا، ولا أحد يضمن ما يحدث للمسجد الأقصى وغيره
من المقدسات.
يعني أن هذه هي "النكبة الثانية" بعد 1948-1949 ومن لا يدرك هذه النهاية
أو يتجاهلها أو يسكت عليها فعنده مشكلة في وعيه وضميره وشجاعته.
تجربة فتح المريرة تتطلب من الرئيس الفلسطيني وحركة فتح أن يقفا لحظة
ويسألا إلى أين تسير الأمور، وأن يراجعا التجربة ويتذكرا الوعود التي
قدمت كل مرة مقابل تلبية تنازل ما تحت الضغط والتهديد دائما، وكيف لحست
من قبل دول كبرى محترمة؟
الدول الكبرى لحست عمليا كل ما أصدرته من قرارات في مجلس الأمن وأبقته
مرجعية وهمية وعلقت المصير الفلسطيني على المفاوضات. أما دورها في
المفاوضات فهو الضغط على الفلسطينيين وحدهم كما يتكرر الآن مع حماس.
لذلك فإن ما يطلب من حماس لتخرج من المأزق سيدخلها في مأزق أشد كما حصل
مع فتح لما حاولت الإفلات من المأزق، حيث وصلت إلى مأزق الانتخابات
الحالية ووصل الوضع أرضا وشعبا في الضفة الغربية لما تشهده الآن من "نكبة
ثانية".
من هنا لا تستطيع حماس ولا يجوز لها ولا يمكن أن تقبل أن تجرب المجرب وما
ينبغي لفتح أن تضغط عليها ولا أن تشترط ذلك من أجل المشاركة، والأمر كذلك
بالنسبة إلى بقية الفصائل وهو ما يتفهمه الشعب الفلسطيني جيدا.
بل إن الأمر يجب أن يكون كذلك بالنسبة للدول العربية والإسلامية لا سيما
مصر، لأن الطريق الذي سلك حتى الآن أوصل إلى ما أوصل إليه في الضفة
الغربية ولا يستطيع أحد أن يقول إنه كان عنده بصيص أمل باستعادة القدس أو
دك الجدار أو تفكيك المستوطنات.
وإنما كان اليقين بتمديد الجدار وابتلاع الأغوار وتوسيع المستوطنات
وابتلاع القدس، وحتى لحظة الانتخابات الأخيرة كان ذلك الطريق هو المطروق
وكان الجدار في حالة تمدد وانتهاء ببقية الصورة.
ولهذا ليس من العدل ولا الحصافة ولا الحرص على أي مصلحة خاصة قطرية أو
ذاتية، أن يقال لحماس اسلكي ذلك الطريق والأنكى أن يضغط عليها أو أن
يمارس على الشعب الفلسطيني الحصار المالي عربيا وإسلاميا، فما الحل وما
المخرج؟
الجواب يجب أن يبدر من حماس ثم من فتح ثم من الفصائل ثم من الشعب
الفلسطيني موقفا موحدا ثم من مصر ومن الدول العربية والإسلامية ومن كل
الأصدقاء في العالم.
أي ينبغي له أن يكون جماعيا إذا أريد أن ينجح ويصب في مصلحة القضية
الفلسطينية والشعب الفلسطيني ومصر (لدورها الخاص) وللعرب والمسلمين
والعالم.
والجواب يمكن أن يبدأ بالقول الحاسم إن الطريق الذي يسلك تحت ما يسمي
افتراضا أو وهما المسار السلمي (أي التسوية) أو ما يسمى استرداد الحقوق
عن طريق المفاوضات أثبت فشله وانتهى بالواقع الفلسطيني إلي النكبة
الثانية –الكارثة– فبأي منطق ولمصلحة من لا يعاد النظر فيه ولا توضع
النقاط على الحروف.
أشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس في خطابه بالمجلس التشريعي الجديد إلى
اعتماد إستراتيجية المفاوضات والمقاومة السلمية، لكنه لم يوضح ما هي
المقاومة السلمية وكيف يجب أن تمارس.
لكن مجرد تطرقه لها يكون به قد خطا خطوة هامة في شق طريق جديد غير طريق
استعادة الحقوق عن طريق المفاوضات.
هذا يعني أن بإمكان حماس وفتح والفصائل الفلسطينية أن يقفوا على النقاط
المتفق عليها أصلا.
وتلك النقاط هي هدم الجدار وتفكيك المستوطنات، (الصغرى والوسطي والكبرى)
ودحر الاحتلال إلي ما وراء خطوط هدنه 1949 أو إلى ما قبل الخامس من
حزيران 1967، ما يتضمن استرداد القدس ومن ثم الاستفتاء لإقامة الدولة على
كامل تلك الأرض المحررة.
أما أسلوب تحقيق ذلك فباعتماد أشكال المقاومة الشعبية السلمية والدفاع عن
الذات والمقاومة عند الاعتداء العسكري والاقتحام، ثم التوجه إلى توحيد
الموقف العربي الرسمي والشعبي وكذلك الإسلامي والعالم الثاني والرأي
العام العالمي وراء هذا البرنامج الموحد.
إن مثل هذا البرنامج والموقف إذا ما تم التمسك به وتحقق صمود عليه،
وتأكدت الدولة العبرية وأميركا وأوروبا وبقية الدول أن الفلسطينيين
والعرب والمسلمين أو أكثرهم جادون في السير على هذا الطريق سيبدأ الآخرون
بإعادة حساباتهم وينتهي عهد سيرهم على طريق باتجاه واحد هو الطريق
الإسرائيلي أو عهد الضغط على الفلسطينيين العرب والمسلمين ليستكملوا نهج
تنازلات لا أحد يعرف قعرها؟
قد يقال إن هذا صعب التحقيق ولن يقبل به من جانب بعض الفلسطينيين والعرب،
لكن على حماس أن تحاول وتصر وتصمم فإذا كان لا بد من إسقاط تجربتها -لا
قدر الله- فلتسقط واقفة ليكون بمقدورها أن تعيد الكرة.
أما سلوك الطريق الذي سلكته فتح فطريق الخسارة المحتومة المزدوجة، لأن
التاريخ –كما يلاحظ كارل ماركس- حين يكرر تجربة مرتين تكون الأولى
"تراجيديا" مأساة وتكون الثانية ملهاة أو مسخرة "كوميديا".
|