حكومة فلسطينية كالحة
2005/02/21
عبد
الباري عطوان
يتباهي الفلسطينيون بأنهم من اكثر الشعوب العربية علما وكفاءة، ولكن الكلام
شيء والواقع شيء مختلف تماما، وتجربة السلطة الوطنـــية الفلسطينية
الممتـــدة لاكثر من احد عشر عاما اثبتت فشلا منقطع النظير علي الاصعدة
كافة.
اعتقدنا، والكثيرون مثلنا، ان سبب هذا الفشل هو نهج الرئيس الراحل ياسر
عرفات الذي لا يؤمن ببناء المؤسسات، ويؤجل كل شيء الي مرحلة ما بعد
التحرير، ولكن ها هو عرفات يرحل شهيدا، ويأتي الي قمة السلطة اكبر منتقديه،
الذين قدموا انفسهم علي انهم رموز الاصلاح ، وفرسان الديمقراطية والحداثة
علي الطريقة الامريكية فماذا كانت النتيجة؟
منذ اكثر من شهر ونحن ننتظر اول حكومة فلسطينية يشكلها قطبا الاصلاح في
العهد الجديد، اتصالات.. مشاورات.. خلافات.. وساطات من مصر والاردن، وربما
البيت الابيض، وكأن السيد احمد قريع كان بصدد تشكيل حكومة الامبراطورية
الرومــــانية في ذروة عظمـــتها، وليس حكومة لسلطة حـــكم ذاتــي لا تزيد
مساحة منطقة نفوذها عن بضعة كيلومترات مربعة محصورة في اجزاء من رام الله!
الحكومة الجديدة التي من المفترض ان تؤشر علي العهد الاصلاحي الجديد جاءت
بالوجوه نفسها والاسماء نفسها، مع بعض التغييرات التجميلية اي ادخال سيدتين
الي الوزارة، ومرشح مزمن لوزارة الداخلية هو اللواء نصر يوسف.
كيف يمكن القيام بعملية الاصلاح الموعودة بالادوات القديمة نفسها التي عجزت
عن مكافحة الفساد، واقامة دولة المؤسسات، وترتيب البيت الفلسطيني، وانهاء
حال الفوضي السائدة؟
فاذا كان عهد الرئيس الراحل فاسدا، شل العمل السياسي الفلسطيني، مثلما كان
يشتكي ليل نهار كل من السيد عباس وكبير وزرائه احمد قريع في مجالسهم الخاصة
وللمسؤولين العرب الذين التقوهم. فلماذا التمسك بالوزراء انفسهم، وكأن
الشعب الفلسطيني عقيم، والارحام الفلسطينية لم تنجب غير هؤلاء؟!
لقد احسن اعضاء المجلس التشريعي صنعا عندما قالوا كفي للسيد عباس ولرئيس
وزرائه، ورفضوا منح الثقة لهذه الحكومة المهزلة، بل لا نبالغ اذا قلنا ان
هــــذه هــي اهم خطوة اتخـــذها هذا المجلــس منذ انتخــابه قبل عشر
سنوات.
الرئيس عرفات كان يرد علي منتقديه الذين يتهمونه بأنه ضد الاصلاح والتغيير
بالقول بانه لا يغير خيوله في وسط المعركة ، وربما كان دفاعه هذا ينطوي علي
بعض المنطق، فالرجل كان يدير انتفاضة مسلحة، ويواجه مؤامرات امريكية، وعزلة
عربية، ومقاطعة اسرائيلية. فماذا يدير السيد عباس، وماذا يواجه السيد قريع،
ولماذا يلجآن للخيول التعبة الهرمة نفسها، التي جري تجريبها في كل حلبات
السباق، ولم تفز في اي منها، وجاء ترتيبها في المؤخرة؟!
الشعب الفلسطيني ملّ من هذه الوجوه، مثلما ملّ من هذا النادي المغلق علي
اسماء معينة تقرر مصيره منذ اكثر من ثلاثين عاما، يتشبثون بالمقاعد
والامتيازات، بينما هذا الشعب يقدم الشهداء والاسري بالآلاف.
عهد ما بعد عرفات يواجه الفشل حتي قبل ان يبدأ. والتغيير الذي يتطلع اليه
ويبشر به هذا العهد، هو تغيير ثوابت الرئيـــس الراحل، والرضوخ لاملاءات
شارون بالكامل.
فالاسري الذين وعد بالافراج عنهم مقابل بيع الانتفاضة لم يتجاوز عددهم
الخمسمئة امضوا ثلثي فترة عقوبتهم، وكان سيفرج عنهم في كل الاحوال، والسور
الذين وعدونا بايقاف بنائه، قررت حكومة شارون الاستمرار فيه، وتعديل مساره
بحيث يضم المستوطنات الاسرائيلية، ويصادر آلاف الهكتارات من الارض
الفلسطينية.
والاخطر من هذا وذاك ان السيد عباس بدأ يمهد لاسقاط حق العودة للاجئين
الفلسطينيين، الذي هو اب القضية الفلسطينية وامها. فقد نقلت عنه مجلة دير
شبيغل الالمانية في عددها الصادر امس استعداده لقبول عدم امكانية عودة كل
اللاجئين الفلسطينيين الي ديارهم السابقة بموجب اتفاقية سلام محتملة مع
اسرائيل !
شارون يؤكد ان القدس هي عاصمة اسرائيل في الماضي والحاضر والمستقبل، ولا
يمكن تقسيمها او التنازل عنها، ويستصدر قراراً عن مجلس وزرائه بالاستمرار
في بناء السور، اي انه يصلب موقفه التفاوضي، ويحدد اجندة المفاوضات مسبقا،
اما الرئيس الفلسطيني فيكشف اوراقه، ويخفض سقف مطالبه قبل ان تبدأ
المفاوضات، بل قبل ان ينجح في تشكيل حكومته الاولي.
التغيير الذي ينتظره الشعب الفلسطيني، ليس في ابعاد بعض الوزراء المزمنين ،
وانما ذلك التغيير الذي يطيح بكل هذا النهج ورموزه، ويدفع بوجوه جديدة
تتولي القيادة، وتستحق تمثيل هذا الشعب، لا التمثيل عليه، مثلما هو حادث
حاليا.
|