حكم من لا سيادة له!
سوسن البرغوتي
اجتاحت هجمة الانتخابات بلاد الرافدين وفلسطين، في غياب أهم عوامل نجاح هذه
الانتخابات، وفي ظلّ فقدان السيادة الوطنية واستقلالية
القرار السياسي في كلّ من البلدين.
سيناريو أمريكي ـ "إسرائيلي" متطابق تماما مع أطماعهما، وبدقّة كي تبدو
الانتخابات في فلسطين والعراق وكأنها إرادة الشعبين في اختيارهما الأنسب
للتفاوض على أرض الاستسلام.! وكي تترافق أيضاً بالمأمول الأهم لكلا الطرفين
الأمريكي والإسرائيلي ، وبسيطرة الشركات التي تسعى في العراق لإحكام قبضتها
على آبار النفط وخيرات البلد بأي وسيلة ممكنة.
ثم تجريد القضية المركزية الفلسطينية والعربية من أيّ شرعية، بحيث يجري
احتوائها ليصعب التفريق بين سلطة مركزية تتفرّد بالقرار السياسي، بما يقود
إلى تهميش دور منظمة التحرير الفلسطينية، وبين نضال شعب قدم التضحيات
المذهلة عبر قرن ويزيد من عمر الزمن، حتى أوصل حقّ القضية إلى أبعاد
عالمية.
تلك الفجوة الكبيرة بين تطلعات الشعب العراقي، وبين سلطة محلية تعمل جاهدة
على استرضاء الاحتلال ولو على حساب مآسي إنسانية
يتعرّض لها الشعب العراقي يوميا على مرأى ومسمع العالم كله. وهذا ما أسقط
العراق في متاهات التيارات السياسية التي همّها أن تعمل
لمصالح حزبية، بغض النظر عن مصلحة الوطن. وكلّ يعمل لمصلحة أيدلوجية خاصة
لا تخدم بشكل فاعل مسألة مواجهة الاحتلال، سواء
بإعلان رفض الاحتلال، أو بالتركيز على موضوعة انتهاك حقوق الإنسان.! و
بالتركيز على إسقاط كلّ شعارات ديمقراطية أمريكا المزعومة في تحرير
العراقيين من نظام ديكتاتوري، أو القضاء على أسلحة الدمار الشامل!. أو كون
احتلال العراق جاء لإيجاد سوق بديلة لشركة "أرامكو" التي سينتهي عقد
استثمارها مع الدولة السعودية في العام المقبل.!
وفي ظل الاحتلال، ومن وراء التضليل بأن الحاكمين الآن هم أدوات وطنية،
يمضي الاحتلال قُدماً لتحقيق غاياته، وتأتي كلمة بوش في هذا
السياق ليؤكد على إجراء الانتخابات في وقتها المحدد.
ورغم الضغوط ومحاولة تصفية المقاومة فإن المجريات على الأرض تدلل بأن هذا
كلّه لن يعمل على إيقاف حمامات الدم في العراق،
وبالتالي لن يتحقق الهدف الأساسي من مجيء القوات الغازية، ويؤكد فشل سياسة
العدوان الأمريكي.
أما ما يحدث الآن في فلسطين وبهدوء نسبي يطفو على السطح، وتحت مسمى شعار
وحدة الصف الفلسطيني. وسط مناخ سياسي مشحون
بالرفض الصامت بحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية، يجعل مهمة
"إسرائيل" أسهل بكثير ومن طرف واحد، لتتصاعد سلسلة جديدة من التداعيات تثبت
فشل اتفاقيات أوسلو، بتحويل الأنظار إلى "خارطة" المتاهات، وبأن المنقذين
الجدد القدامى جاؤوا لتصحيح الخلل في تطبيق النهج النضالي السابق على أنها
مرحلة مضت، لتأتي موجة أخرى تجبّ ما قبلها، وهكذا بمسار عبر طريق معزول عن
الرؤيا التاريخية.
إن إحجام بعض فصائل المقاومة عن دخول الانتخابات، بحجّة المحافظة على
الوحدة الوطنية ما هي إلا خطوط وهمية حمراء مغلفّة بشكل
يتناقض مع متطلبات الشعب، والمعنى من تضحياته ونضاله.
كما أن فرض القرار بتفرّد قيادة تتجاهل فئات الشعب ومطالبه دون محاسبة
ومكاشفة، أدّى إلى تجاهل الحقوق الوطنية. وهذا بدوره
سيتصاعد ويصل عبر تراكمات مغلوطة إلى تشتّت الصفّ الوطني، لا توحّده.
فهل نقول بأن الصمت في هذا الوقت الدقيق هو حياد سلبي.؟
أم أن تحجيم جهد ونشاط وفاعلية الفصائل قد أصبح أمراً واقعاً.؟
لتستفرد حركة فتح بقرارات حزبية تخدم استمرارية النهج نفسه الذي فشل
تطبيقه على أرض فلسطين!
أن يعلن المناضل مروان البرغوثي عدم ترشيح نفسه، هذا يدعو إلى التفاؤل بأنه
ثابت أمام أي إغواء إسرائيلي للخروج من زنزانته. لكن أن يدعو إلى دعم ترشيح
محمود عباس كونه من الحزب نفسه، فإن هذا سيقود الشعب والقضية الفلسطينية
إلى حِمل مثقل بالرموز، دون
مواجهة حقيقية لتردي الوضع في وطن محتل يعاني الويلات على جميع الأصعدة.
وكأن مصلحة الوطن مقتصرة على وحدة الصفّ في فتح.! أم أن القرار من المناضل
مروان هو خيار والتزام حزبي يبقى فوق أي اعتبار وطني عام..؟ متناسياً من
اعتبر شارون سفاح "صبرا وشاتيلا" شريكا في عملية السلام المزعومة، ومخاطبته
بـ سيدي هو خير من يمثل قضيتنا وتطلعاتنا الوطنية..!؟
تصريح البرغوثي كمنافس قويّ من نسيج فتح انسحابه من الترشيح وتزكيته
لمحمود عباس، يطرح شكوكا في ممارسة ضغط ما لاستبعاده عن مسرحية انتهت
فصولها بالفعل. وما يجري الآن ما هو إلا اللعب في الوقت بتخطيط وأوامر
مباشرة من نظام "شارون"، على حساب
مصير شعب يساق إلى "المسلخ" بدم بارد.! وما الانتخابات إلا صورة رمزية
لإعطاء تبرير يرافق الموكب القيادي في طريقه لأداء طقوس التعميد. وإن كان
شعار التوحّد لا بد منه، فلماذا راح ضحية اقتتال فئتين من نفس الحزب الكثير
من الأبرياء، قبيل وفاة الرئيس عرفات في غزة..؟!
قبل الشروع في الانتخابات هناك أجنده وأولويات، أولها الدعوة إلى الحوار،
وإلى تشكيل لجنة تتقصّى الحقائق في موت الرئيس عرفات
مسموماً ومن قبل المقربين منه في مركز المقاطعة.! ثم تقاسم إرث الشعب
الفلسطيني في اتفاق باريس مالياً وسلطوياً.! ومحاربة فساد كوادر القيادة
الفلسطينية، وفي عدم التنازل عن حق العودة والقدس كعاصمة لدولة فلسطينية
ذات سيادة. كل ما سبق من شأنه أن يدعو إلى
رصّ الصفوف والتكاتف الوطني نحو هدف واحد.
إن الانزواء والابتعاد عن المشاركة في حدث مصيري، يثير مزيداً من التصدّع
في الصف الوطني، ويصبّ في دعم الورم السرطاني "الإسرائيلي"، وضرب كلّ من
يرفض الخضوع إلى هيمنة الاحتلال الأمريكي في العراق، ومن يأبى التنازل عن
أقل حق من حقوقنا الوطنية والقومية في فلسطين.
الواضح البيّن هو أن كلا السلطتين "في العراق وفلسطين" لا تملكان حقّ جمع
رفات من اُغتصبوا إنسانيتهم، وقطّعوا أجسادهم إرباً.
فأيّ استقلالية هذه..؟ وأيّ قرار يرتجى من شأنه فعلا أن يدعو إلى رصّ
حقيقي للصفّ الوطني الفلسطيني على طريق التحرير والعودة، وعلى
طريق تحرير العراق؟!...
29/11/2004
|