حذارِ الفتنة... حذارِ التخلي عن حق
المقاومة!
عبد اللطيف مهنا
قولان
لهما دلالاتهما صدرا مؤخراً على هامش مسلسل الأحداث الدموية المتفاقمة في
فلسطين المحتلة، وما يوازيها من اللغط الدائر حول اقتراب موعد تنفيذ خطة
شارون المعروفة بفك الارتباط من جانب واحد في غزة... وعندما نقول مسلسل
الأحداث، نعني تلك الأحداث الدموية التي تعكس وقائعها جدلية ما يترتب
موضوعياً على المعادلة المتمثلة في واقع الاحتلال ومقاومته الضرورة...
بالتوازي أيضاً مع التجاذب "السلامي" الفاقد معانيه، بين سلطة فلسطينية أقل
ما يقال عنها أنها عاجزة، بل يقول حتى بعض وزرائها أن ممارستها لسلطتها غدت
تقتصر على صرف الرواتب لموظفيها لا أكثر، وبين عدو، من نافل القول أن
ميزان القوة المختل أصلاً وبما لا يقاس دولياً وإقليمياً وعلى الأرض
لصالحه، يجعله في حل من مجرد التفكير في العودة عن مخططاته الاستراتيجية
التهويدية التي أقيم كيانه أصلاً وفقها ومن أجلها. إذ لا يجد في ظل
معادلات الواقع القائم، على كافة الصعد الدولية والإقليمية، واستناداً إلى
إحساسه المتورم بالقوة، ما يردعه عن ممارسة سياساته الراهنة جهاراً نهاراً
وفق تلك الاستراتيجيات، ولا حتى ما يدفعه إلى محاولة إخفائها أو تمويهها،
كما جرت العادة سابقاً... القولان أحدهما إسرائيلي، والآخر فلسطيني. الأول،
هو لوزير الخارجية الإسرائيلية سلفان شالوم معلقاً على اجتياح مدينة طول
كرم، والاعتداءات على غزة، فالاعتقالات والاغتيالات التي جرت على هامشها،
بعيد عملية نهاريا الاستشهادية وبذريعتها، قال شالوم :
إن
إسرائيل لن تعود "إلى أيام ياسر عرفات"!
والقول
الثاني، هو للأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين رمضان عبد الله
شلّح، المنظمة التي نفذ العملية أحد مقاتليها، أو تبنتها إحدى خلايا سرايا
القدس الجناح العسكري لها والتي لم تتنصل منها ، قال:
إننا
نفتقد ياسر عرفات رغم كل اختلافنا معه"!
هذان
القولان النقيضان، ماذا يعنيان؟
لا جدال
في أن شالوم، مستفيداً من المعادلات القائمة المشار إليها، ومن المعادلة
الراهنة التي رسختها قمة شرم الشيخ عبر إعلانها التهدئة، وحيث جرت الوقائع
على الأرض منذ إعلانها وكأن الالتزام بها هو من واجب طرف واحد فحسب هو
الفلسطيني، يريد إبلاغ السلطة وكل من يهمه الأمر دولياً وإقليمياً، بوجوب
تدشين معادلة جديدة تناسب الإسرائيليين وحدهم، وإنهم لن يتساهلوا في مسألة
وجوب فرضها على سلطة لا تملك من أمرها شيئاً، تقول: احتلال بلا مقاومة
مقابل سلام إسرائيلي أو تهويد بلا قمع، مع بعض المنح الإسرائيلية التي تتفق
مع ما تعنيه مقولة شارون "تنازلات مؤلمة" لأسباب ودوافع ديموغرافية وأمنية،
مثل، إعادة الانتشار خارج قطاع غزة المكتظ وذا التكاليف الاحتلالية
الباهظة، وأحكام محاصرته جواً وبراً وبحراً، والخروج من أربع مستعمرات
ثانوية شمالي الضفة، وإبقائها ضمن فئة "ب" وفق التقسيمات الأوسلوية، أي تحت
السيطرة الأمنية الإسرائيلية... يضاف إلى ذلك كله، وجوب انتزاع ضمانات
أمنية من السلطة ودول الجوار العربي لفلسطين، تلك التي وقعت اتفاقات "سلام"
مع إسرائيل، وهي من لها حدود مع المناطق التي سوف يتم الجلاء نسبياً عنها،
تقضي بتجفيف مصادر سبل المقاومة، كتهريب الأسلحة... وصولاً إلى تعهد السلطة
بإيقاف المقاومة والحؤول دونها ودون ملاحقة المحتلين المنسحبين، بحيث يغدو
هذا الانسحاب الانكفاء، كما وصفناه، وكأنه منحة "سلامية" من شارون، وليس
انسحاباً أكره المحتلون عليه، أو كما قلنا في مقال سابق، أنه كان أمنية
رابينية قد يجسدها شارون، إن نُفّذت!
وإذا
كان هذا ما يعنيه شالوم، فإن هذا يأتي بعد أن نعى شارون رسمياً "اتفاقيات
أوسلو"، وكان قد فعلها ضمناً منذ مجيئه إلى السلطة في إسرائيل، وذلك
بإعلانه أنه بعد إنجاز خطته فك الارتباط من طرف واحد في غزة سوف لن يكون
هناك ممر آمن بالنسبة للفلسطينيين إلى الضفة، و"لا طريق علوي أو سفلي، ولا
طريق غاطس" حسب تعبيره، الأمر الذي من المفترض أنه كان مقرراً وفق ما ورد
في تلك الاتفاقيات... فما الذي عناه الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي؟
لقد قال
في ذات المقام الذي جاءت مقولته المشار إليها في سياقه، إن "كل شروط
التهدئة التي وضعتها الفصائل الفلسطينية قد تبخرت"، ويعني هنا عدم الالتزام
الإسرائيلي بأي منها، كما تقول الإحصائيات التي صدرت عن السلطة الفلسطينية
ذاتها، وهي المتمسكة بالنواجذ بتلك التهدئة، لدرجة التصدي بالسلاح لمنع
مجموعة لحماس كانت بسبيلها إلى قصف إحدى المستعمرات شمالي غزة، وجرح خمسة
من عناصرها، الأمر الذي ساق إلى المواجهات الدموية المؤسفة والمؤلمة
والمرفوضة التي تبعت لاحقاً في المدينة المكلومة، أو التي خرقت خطاً
فلسطينياً أحمراً لطالما سعى المحتلون لدفع الفلسطينيين لخرقه، ولطالما
تغنت الأطراف الفلسطينية، سلطة وتنظيمات، بمحافظتها عليه... على أية حال
يبدو أن مذبحة مروحيات الجنرال حالوتس، التي جالت في سماء القطاع تصب حممها
دون تمييز بين الشرطة والمقاومين، والمزاج الشعبي الرافض للاستفراد
بالمقاومة وهدر الفلسطيني الدم الفلسطيني ساهمت حتى الآن في لجم الفتنة،
نأمل ألا يكون ذلك إلى حين... تقول الإحصائيات المشار إليها ما يلي:
إن
إسرائيل خرقت اتفاق التهدئة فقط 6983 مرة. حيث سقط خلا ذلك 44 شهيداً
فلسطينياً، و451 جريحاَ، واعتقلت (دون حساب من اعتقل أو استشهد بعد عملية
نهاريا)119 مناضلاً، وأقامت 1501 حاجزاً جديداً، وصادرت 33803 دونماً،
وأقدمت 85 مرة على اقتلاع أو تجريف الأشجار والمزارع، كما اعتدى المستعمرون
من جانبهم على الفلسطينيين 246 اعتداءً... أي أننا لم نكن بصدد "هدنة
تبادلية" كما روج لهذه الصفة وألصقها بها كل من قبل بها من فصائل المقاومة!
... أما
لماذا يُفتقد اليوم ياسر عرفات، فلأن الغائب، كما يرى الأمين العام لحركة
الجهاد الإسلامي، كان "في قرارة نفسه يقر أصلاً بالحق الفلسطيني في
المقاومة"...
أي بلغة
أو أخرى ربما أراد القول، وهو في معرض من يشتكي من إصرار السلطة على مثل
هذه التهدئة، وبأي ثمن كان، أنه قد غدا مطلوباً من الفلسطينيين اليوم
التنازل حتى عن حق الدفاع عن النفس...
وعليه،
هل ما جرى في غزة، أو قد يجري إذا لم يجري تطويقه نهائياً، يعني الوقوع مع
سبق الإصرار، ولأسباب تكتيكية بائسة في مثل هذه الخطيئة الاستراتيجية
القاتلة؟
للإجابة، لا بد من ملاحظة أن هناك جملة من الوقائع الإسرائيلية، التي تصر
على دفع السلطة إلى ذلك، قبل سردها، لا بد من الإشارة إلى ما يلي:
لقد حرص
الإسرائيليون الذين لا يريدون ترك غزة دون أن تسبح في دمائها بغية خلق مناخ
موات لانسحابهم، والذين اتخذوا قراراً باستهداف كل المقاومين بصرف النظر عن
انتماءاتهم التنظيمية، استغلال شرارات الفتنة لإيقاد جذوتها ومنع محاولات
وأدها، فأنذر الجنرال موفاز السلطة باجتياحات واسعة حشد لها قواته "إن هي
تراخت" في قمع المقاومة... أما تلك الوقائع المشار إليها فأولها:
التأكيد
المتكرر على أن الانسحاب من غزة لا يعني تركها، وإنما تحويلها إلى سجن كبير
يمكن العودة إليه وقتما يشاء الإسرائيليون، وإن هذا الانسحاب ما كان أصلاً
إلا لسببين:
وأحدهما، خروج من القطاع لأسباب ديموغرافية، كما أشرنا سابقاً، ولتجنب
الخسائر البشرية أو كلفة الاحتلال التي لا يتحملها هذا الاحتلال ما بقي
فيه، أو تنفيذ للحلم الرابيني. أي ما يعني بسبب المقاومة وليس لأسباب نجمت
نتيجةً عن مفاوضات، أو قرار يمكن العودة عنه إن استمرت هذه المقاومة.
والآخر:
إن الخروج من غزة يعني إلغاء الحكم العسكري المفروض من جانب الاحتلال، وما
يترتب على ذلك من الإفادة الإسرائيلية من ذلك دولياً، أي التحلل من
الالتزامات التي تترتب على المحتل تجاه من يحتلهم وفق القانون الدولي،
أمناً وسبل عيش، وهو أمر على أية حال، ومن الناحية العملية، لم تقم به
إسرائيل في يوم من الأيام... بل إن آخر شكاوي السلطة تقول بأن الإسرائيليين
يقومون الآن بسرقة رمال غزة لاستغلالها في صناعة الزجاج!
وثانيها، ما تسربه المصادر الإسرائيلية من توقعات إسرائيلية بأن تنفيذ خطة
"فك الارتباط"، وفق ما أوضحناه، ومع لفتنا الانتباه إلى أن الانسحاب من
قطاع غزة لن يشمل مستعمرات تقع في شماله، قد تؤدي إلى "انفتاح عربي وإسلامي
يتمثل في أن تبدي هذه الدول استعداداً أفضل لرفع مستوى العلاقات بينها وبين
إسرائيل". وتكرر هذه المصادر الإشارة إلى أن وزير الخارجية شالوم يبذل
جهوداً خاصة لتحقيق ما تصفه "اختراقاً" في العلاقات مع 15 دولة عربية، وهو
ما قاله شالوم بنفسه في محاضرة ألقاها مؤخراً في تل أبيب.
... لكن
واسطة العقد فيما ترمي إليه الخطة الشارونية العتيدة، هو ما كان في القدس،
أي أولى ثمرات "فك الارتباط" حتى قبل إنجازه، والمتمثلة فيما أعلنه
الإسرائيليون على الملأ من مخطط أطلقوا عليه "غلاف القدس" أو استكمال
الأسوار العازلة من أجل إخراج أكبر قدر ممكن من أهلها العرب، أي عملياًَ إن
هذا الخروج الإسرائيلي المفترض بعد شهر من غزة سوف يقابله إخراج
الفلسطينيين من القدس، حيث يقول الوزير حاييم رامون المكلف بملفها:
"كلما
كانت القدس مدينة أكثر أمناً وأكثر يهودية، كلما أمكنها أن تكون عاصمة
لدولة إسرائيل"!
...
وإذا ما أضفنا إلى ذلك مخططات تهويد الضفة بأسرها، ما خلا بقاء تجمعات
بشرية فلسطينية كجزر معزولة تظل برسم الترانسفير لاحقاً، وكذلك مطالبة
إسرائيل للولايات المتحدة بما تدعوه "هبة انفصال" هي أكثر من ملياري دولار
كنفقات لفك هذا الارتباط العتيد، والأمر على أية حال يأتي مطالبةً بوعد
أمريكي سابق، يكون الانسحاب من غزة وفق أية مسمى وعلى أية طريقة ينفذها
الإسرائيليون هو انكفاءً مرده المصلحة الإسرائيلية أولاً وأخيراً، أي هو
ضمناً بسبب الفعل المقاوم وتجنباً للخسائر، وكلفة الاحتلال، وليس عشقاً
منهم في مواصلة ما توصف بمسيرة سلام سبق أن دفنها شارون مع اتفاقيات أوسلو
التي كانت قد زرعت أوهامها... وعليه هل مسألة إعادة الانتشار خارج غزة في
حكم القرار الإسرائيلي المبرم الذي لا رجعة عنه؟
شارون
الذي غدا بفضل سياساته التهويدية، ورغم المماحكات الإسرائيلية البينية،
"ملك إسرائيل"، كما يدعوه مريدوه، بلا منازع، يؤكد ذلك ولا يمل من ترداده
صباح مساء...
إذا
كان الأمر كذلك، ولأنه كذلك، فإن لسان حال الشعب الفلسطيني اليوم الرافض
لإسالة الدم الفلسطيني بيد فلسطينية يقول للجميع... وللواهمين تحديداً:
حذار من
الفتنة... حذار من تداعيات ما قد يعني التنازل عن حق المقاومة... أو الوقوع
طوعاً في بؤس التخلي عن حق الدفاع عن النفس!
|