حركة فتح ما بين الثوابت والضغوط


عماد حسين *

يتصور البعض أن نكبة القضية الفلسطينية كانت في عام 1948م، بظهور دولة إسرائيل، ولكن الحقيقة أن نكبة القضية كانت- وما تزال- في مؤتمرات الزعماء في المنطقة العربية قبل وبعد عام 1948م.. إن الموقف في أثناء وبعد حرب 1948م، بدأ يتكرر بعد عام 1956م، وتمثل ذلك في وقف كافة أشكال العمل الفدائي من الجبهة المصرية بعد انتهاء العدوان الثلاثي في عام 1956م، وبدأ تدريجيًا في التوقف على الجبهة السورية مع تصاعد العلاقة المصرية السورية، والتي انتهت بالوحدة بينهما في 1958م.

وقد بدأت ملامح مشروع تسوية سلمية للقضية في مقابل ثلاثة مليارات من الدولارات لدول المواجهة (مصر ـ سوريا ـ لبنان ـ الأردن)، وهو ما عرف فيما بعد باسم مشروع "هامر شولد". وبدأ الهجوم الإعلامي على الهيئة العربية العليا الفلسطينية، ورئيسها الحاج "محمد أمين الحسيني"، والتمهيد لظهور كيان فلسطيني جديد يخضع للنظم العربية (وهو ما عرف لاحقًا باسم منظمة التحرير الفلسطينية.

وكان من الطبيعي أن يعمل بعض أبناء فلسطين على إنقاذ قضيتهم، وبدأ تجمع القيادات الصغرى للعمل المسلح، وقد اعتقلت معظمها في بلاد المواجهة، ثم طردت بعيدًا عنها، وقصدت هذه القيادات دولاً عربية بعيدة، مثل دول الخليج العربي وليبيا وغيرها.

النشأة والبداية

بدأ من هذا المنفى التجمع والحوار، وكانت حركة فتح هي نتيجة هذا الحوار.

كانت بذرة التأسيس في الكويت في عام 1957م، وقد بدأت على يد أربعة هم: ياسر عرفات، وخليل الوزير (أبو جهاد)، وعادل عبد الكريم، ويوسف عميرة. وبدأ التحرك بشكل سري بين التجمعات الفلسطينية، وقرر الجميع منذ البداية عدم النظر إلى الخلفيات المرجعية لكافة الأعضاء، ثم ضمت المنظمة أفرادًا من جماعة الإخوان المسلمين ومن الشيوعيين ومن حزب البعث الاشتراكي.

وكان المبدأ الأساسي الذي اجتمع عليه الجميع هو ضرورة العودة إلى الكفاح المسلح من ناحية، وعدم الخضوع أو التبعية لأي من النظم العربية من ناحية أخرى، أو بمعنى آخر استقلال القرار الفلسطيني بعيدًا عن حسابات ونزاعات وتوازنات النظم العربية.

وانضم إلى التنظيم في مرحلته الأولى كثير من النشطاء من أمثال: على الحسن، وهاني الحسن، ومحمود يوسف النجار، وصلاح خلف (أبو إياد)، وكمال عدوان، وخالد الحسن، ومحمود عباس (أبو مازن)، وفاروق القدومي ، وخالد اليشرطي وغيرهم . وبدأ تنظيم المجموعات الفلسطينية في كل من قطر والسعودية وليبيا ولبنان وسوريا والجزائر ومصر.

وظل مكتب التأسيس بالكويت هو الأقوى تأثيرًا في حركة التنظيم في أواخر أكتوبر من عام 1959، وكان يصدر نشرة شبه دورية من لبنان تحت اسم "فلسطيننا"، وكان الإمضاء على النشرة بعكس حروف "حتف" أي الموت ، في إشارة واضحة لمعنى التضحية والفداء ؛ فكان المكتوب "ف. ت. ح"، واتخذت النشرة خطا واضحًا منذ البداية ؛ فأعلنت استقلاليتها الشاملة عن كل الأنظمة ، والأشكال التنظيمية السابقة على تاريخ صدورها ، كما تبنت خط التاريخ لحركة المقاومة الفلسطينية .

الكفاح المسلّح هو الخيار

قصرت تاريخها على المقاومة المسلحة؛ فأبرزت صور الشهداء أمثال عبد القادر الحسيني وعبد الرحيم الحاج محمد وغيرهم، وبدأت جهود التنظيم في الإعداد للكفاح المسلح؛ فبدأت جهود جمع السلاح وتخزينه، وتدريب الأفراد على الأعمال القتالية، واستمرت نشرة فلسطيننا تعمل في نطاق الحث على العودة للعمل المسلح ضد إسرائيل، وهذا جعل النشرة ممنوعة من كافة النظم الحاكمة في دول المواجهة ، وكان وجودها مع فلسطيني سببًا كافيًا لاعتقاله، واستمرت النشرة في الصدور حتى نهاية عام 1964م، وفي 1/1/1965، صدر أول بيان عسكري عن منظمة فتح يعلن عن أول عملية فدائية داخل إسرائيل بمعرفة الجناح العسكري التابع لمنظمة فتح ، والذي سُمي بالعاصفة ، وكان ذلك مواكبًا للإعلان عن ظهور منظمة التحرير الفلسطينية.

ومع بداية العمل المسلح ، بدأت المشاكل مع النظم العربية المحيطة بإسرائيل ، وقد صدر عن فتح خلال الفترة من 1/1/1965 إلى 5/6/1966 حوالي 53 بيانًا عسكريًّا تضمنت أكثر من 180 هجوما عسكريًا ، ولم تقف إسرائيل ساكنة تتلقى هذه الضربات ؛ فقد بدأت بالهجوم على الحدود السورية واللبنانية والضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة ، ومع ذلك استمرت أعمال فتح العسكرية ، وبدأت النظم العربية في دول المواجهة في تعقب الفدائيين، واعتقالهم ، بل أحيانًا تترصد العائدين من العمليات العسكرية من داخل إسرائيل فتشتبك معهم فتقتلهم أو تعتقلهم، وقد تكرر هذا المشهد كثيرًا على الجبهة الأردنية والجبهة اللبنانية.

وعلى صعيد آخر بدأت فتح في تطوير علاقاتها مع حركات التحرر في العالم ، والدول الاشتراكية، وهذا في محاولة لكسب مساحة تدعيم سياسي وعسكري لأنشطتها ؛ فتكونت علاقة مع نظام "هانوني" في "فيتنام"، وأفادت المنظمة من خبرات حرب العصابات للجنرال "جياب" ، كما اتصلت بالصين وكوبا والثائر "جيفارا"، وعلى النطاق العربي أسست فتح لنفسها مكتبًا في الجزائر، ثم في ليبيا ، وفي دول الخليج ، وبدأت في الضغط على دول المواجهة لرفض الحلول السياسية وطالبتها بدعم كفاح الشعب الفلسطيني.

فتح ما بين الهدف الرئيسي وسياسة التوريط

وفي هذا النطاق لا بد لنا من إيضاح سياسية منظمة فتح ؛ حيث اتجهت فتح في سياستها إلى مراسلة كافة المؤتمرات الرسمية التي انعقدت للقضية الفلسطينية ؛ لتؤكد أن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لاستعادة الحق الفلسطيني وحل القضية ، وأنها ترفض سياسة الأمر الواقع الذي تفرضه إسرائيل ، والذي تميل إليه بعض النظم العربية ، كما رحبت بالكيان الجديد الناشئ بقرار من جامعة الدول العربية وهو منظمة التحرير الفلسطينية ، على أن يقوم هذا الكيان بشكل مستقل عن التيارات السياسية العربية المختلفة ، وأن يعتمد سياسة الكفاح المسلح ، وقد اتصلت بعض قيادات فتح بالسيد "أحمد الشقيري" في محاولة لإقناعه بتنسيق الجهود على هذه الأسس ، ولكنه رفض ذلك ، ومن ثم اتجهت سياسة فتح في ظل الوضع الجديد (وهو وجود كيان له صفة رسمية معترف بها من جميع الدول العربية) إلى اتجاه آخر.

كان الاتجاه الجديد لمنظمة فتح شديد الخطورة، وكان البعد الأول فيه في أدبياتها بالشكل التالي:

"إن الاستقرار الزائف التي تشغر به بعض الدول العربية التقليدية لا بد أن يندثر لتستيقظ العوامل الثورية الفاعلة في المجتمع... إن العمل المسلح سيوقظ العناصر الثورية من ركودها المؤقت ويزيد من نشاطها بفضل تحرج الموقف بيننا وبين العدو... ويعبئها ويستفزها لتصبح مستعدة لخوض المعركة على المستوى القومي... من شاء أن يسمي هذه الأعمال المسلحة توريطًا فليسمه…"، وذلك معناه أن فتح تعي أن أعمالها المسلحة لن تحل القضية، ولكنها ستعمل من خلال هذه الأعمال في دفع البلاد العربية إلى معركة مع إسرائيل ، وقد حدثت المعركة بالفعل بعد عامين وأشهر من بدء العمل المسلح (في يونيو 1967م)، فماذا كان تحليل فتح لنتائج الحرب؟

ينقل إلينا "أبو جهاد" نتائج المناقشات حول الحرب، وهي:

* تشير التقديرات إلى أن انهيار الجيوش النظامية العربية على النحو الذي قاد إلى هزيمة 1967 من شأنه أن يضع حدًا لمصادرة هذه الجيوش لحق الفدائيين الفلسطينيين في مقاتلة العدو.

*استعداد قطاعات واسعة من الجماهير العربية تبني توجيهات وسياسات فتح.

*ضعف قبضة النظم العربية المهزومة على حركة الجماهير؛ مما يعني قدرًا من الانفراج النسبي الذي يمكن الاستفادة منه.

          *ومن ثم كانت نكبة 1967 ذات فوائد عديدة لمنظمة فتح.

الطموحات السياسية لفتح متي وكيف ؟

نعود إلى اتجاهات فتح ، والتعرض للبعد الثاني في سياستها الجديدة ، وقد تمثل في خطة تدريجية وضعتها حركة فتح للتغلغل داخل منظمة التحرير الفلسطينية، والاستيلاء عليها، وبذلك يكون الممثل الشرعي للشعب والقضية الفلسطينية ، هو بذاته حركة فتح.

وبدأت الخطة في العمل بعد هزيمة 1967 مباشرة، واستثمرت أجواء الهزيمة في النظم العربية المؤيدة لمنظمة التحرير، وكذلك داخل الحركة نفسها ، وبدأت بدفع عناصر من فتح داخل اللجان المختلفة، ثم كانت الخطوة الثانية بتحريك اللجان نفسها لإظهار ضعف القيادة ، ثم تتحرك اللجان بشكل أكثر حدة وتطالب في 14/12/1967 بتنحية السيد/ أحمد الشقيري عن رئاسة المنظمة..

وحاول الشقيري مواجهة هذا الوضع ، ولكنه اضطر إلى التخلي عن مكانه في 24/12/1967، وتم تعيين السيد/ يحيي حمودة- أحد أعضاء اللجنة التنفيذية- رئيسًا بالوكالة (مؤقت) لحين انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، وفي عام 1968، يخرج إلى العالم ياسر عرفات (أبو عمار) ليعلن أنه المتحدث الرسمي باسم منظمة فتح ، وينعقد المجلس الوطني الفلسطيني ، وتتحرك عناصر فتح داخل اللجان المختلفة ، وتنجح في وضع أبو عمار- ياسر عرفات- على رأس اللجنة التنفيذية والمجلس العسكري للمنظمة عام 1968، وبالتالي يصبح رئيسًا لمنظمة التحرير الفلسطينية ، ويعلن اندماج كل من حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية بشكل كامل عام 1969م.

فتح ما بين الانتصار والانكسار !!!

لا بد لنا- قبل ترك هذه النقطة- أن منظمة فتح لم تكن هي المنظمة الوحيدة المقاتلة في ساحة فلسطين، بل كانت هناك منظمات أخرى، ولكن فتح كانت أسبقها، كما كانت أكثر تنظيمًا، وتكاد تكون المنظمة المستقلة الوحيدة، بجانب ما كان لها من معارك مشهودة خلال حرب 1967، وأيضًا كان لها موقف شهير بعد 1967م؛ إذ أعلنت استئناف العمل المسلح فورً.

وانتقل ياسر عرفات إلى قلب القدس لينظم المقاومة المسلحة والسرية، وخاضت قوات فتح (العاصفة) تحت قيادة ياسر عرفات "معركة الكرامة"، حققت فيها انتصارًا- غير متوقع بكل المقاييس المادية المعنوية - مشهودًا على القوات الإسرائيلية عام 1968، وكانت هناك عدة معارك انتصرت فيها قوات العاصفة مثل معركة "بيت فوريك" و"التياسير"، وعملية "حراب فتح"، وعملية "الحزام الأخضر" وغير ذلك.. وكانت هذه المعارك محل تقدير من القريب والبعيد؛ مما دفع بمنظمة فتح إلى مكان الصدارة بين المنظمات الأخرى، وهذا دفع 15 ألف شاب للالتحاق بها خلال عام 1968 طواعية.

وقد تعرضت فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى أزمات مع الدول العربية المواجهة لإسرائيل ؛ فقد حاولت الأردن تقليص مساحة العمل الفدائي المنطلق من أرضها بعد حرب 1967، كما حاولت فرض صيغ رسمية تجعل الأردن شبه وصية على الوضع الفلسطيني في الأردن، وقد رفضت "فتح" هذا الأمر بشقيه، وتولى ياسر عرفات قيادة المنظمة في الساحة الأردنية.

وكان التشدد من الجانبيين دافعًا لانفجار الأوضاع بشكل دموي في أغسطس 1970، ويتدخل الجيش الأردني بعنف ضد المخيمات ومواقع ومعسكرات فتح في الأردن في سبتمبر؛ فتتدخل أطراف عربية لوقف الصدام المسلح، وتتواصل جهود عديدة حتى تتواصل الأطراف إلى عقد اجتماع وتوقيع اتفاق في القاهرة في 29 سبتمبر 1970، ولم يلتزم أي من الطرفين بالاتفاق، حتى تم تصفية كافة أشكال العمل المسلح الفلسطيني من الأردن.

الحرب اللبنانية : من الكفاح المسلح إلى عمليات التسوية

وينتقل الوضع إلى لبنان ، ويتولى ياسر عرفات قيادة الجبهة اللبنانية، ويحاول الجانب الفلسطيني التدخل في الحياة السياسية اللبنانية لضمان وضعه في المواجهة مع العدو الإسرائيلي ، وهذا التدخل يجعل من وجوده أحد عوامل انفجار الوضع في لبنان ، خاصة مع تدخل الجيش السوري الذي يصطدم مع العناصر المسلحة لفتح ؛ فتتدخل فتح في انقلاب عسكري قام به قيادات عسكرية لبنانية، وتتطور الأوضاع إلى ما عرف بالحرب الأهلية اللبنانية (75-1979م)..

ولكن إسرائيل تبدأ في قمع الوضع الفلسطيني في لبنان ، وتبدأ في عملية غزو شاملة للبنان عام 1982، وتنجح إسرائيل في ملاحقة التنظيمات من لبنان عام 1983 على سفن الأسطول المصري ، وبذلك لا يتبقى حول إسرائيل عناصر فلسطينية مسلحة، ولكن يتبقى داخل جسم دولة إسرائيل 3 ملايين فلسطيني.

تعرضت منظمة فتح إلى أزمات داخلية عديدة، كانت أولى هذه المحن و أبرزها على الإطلاق أزمتها عام 1966م، وهي الأزمة التي دفعت بمكتب الكويت إلى إصدار قرار بفصل عدة قيادات على رأسهم ياسر عرفات (أبو عمار). وبعد تسوية هذه المسألة بقليل ظهر تطاحن واضح على القيادة ؛ مما دفع إلى عمليات تصفية جسدية لبعض قيادات المنظمة، اتهم فيها ياسر عرفات، وقد سجن هو وبعض القيادات الأخرى في سوريا لمدة تزيد على ثلاثة شهور، وقد صدر قرار سياسي بالإفراج عنهم مع محاكمة الشخص الذي أطلق الرصاص من مسدسه (وقد حكم عليه بالإعدام ، ولكن الحكم لم ينفذ حتى الآن)..

أما المحنة الثانية  فقد كانت في انقسام قيادات فتح حول الحل السياسي الذي بدأ يتردد من بعد عام 1973-1974، وفي ظل هذا الخلاف بدأت إسرائيل تلعب بمكر ودهاء ؛ إذ خططت لتصفية كافة القيادات المصرة على الجهاد المسلح كطريق وحيد للوصول للحق الفلسطيني ، مثل اغتيال ثلاث قيادات في لبنان في 1973، وهي من قيادات العمل المسلح، كما اغتيل أبو جهاد في تونس عام 1988، وغير ذلك من الاغتيالات الإسرائيلية للقيادات الفلسطينية الجهادية.

وتبدأ قيادة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية سلسلة من الاعترافات ، بدءًا بقرار 242 المقر بوجود دولة إسرائيل ، ونبذ العمل المسلح ضدها، وعقد اتفاقيات التسوية السياسية، بدءًا من أوسلو 1991 إلى اليوم، وبسبب هذا الوضع كان لا بد للقضية الفلسطينية أن تبحث لها عن رجال جدد، يجددون ذكرى أبطالها وشهدائها، ويقدمون دماءهم وحياتهم من أجلها؛ فوجدتهم في أطفال وصبية وشباب فلسطين داخل فلسطين.. فالقضية قضيتهم والأرض أرضهم؛ فكانت الانتفاضة منذ عام 1987 وإلى الآن
ــــــــــــــــ

* محاضر بالجامعات المصرية

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع