أزمة السلطة الفساد أم خيارات عرفات السياسية؟

ياسر الزعاترة     الحياة     2004/07/26

من الواضح ان ثمة ميلاً في بعض الاوساط الفلسطينية والعربية الى حشر ما يجرى في قطاع غزة والضفة الغربية في دوائر الصراع حول النفوذ والفساد من دون النظر الى الأبعاد السياسية الخارجية للأزمة.

والحال اننا لو أردنا تتبع حكاية الفساد في السلطة لما وجدناها اكثر تجلياً مما كانت عليه خلال فترة الصعود لاتفاق أوسلو الممتدة بين عامي 1995 و2000, اي وصولاً الى اندلاع انتفاضة الاقصى. في تلك الآونة كان عدد من كبار قادة السلطة قد تحولوا الى سماسرة وتجار وشركاء لمقاولين اسرائيليين من مختلف التخصصات, وكانت حكايات فسادهم بما فيها الاخلاقية, مما يتندر بها الناس في الضفة الغربية وقطاع غزة, حيث كان يطلق عليهم في حينها لقب "جماعة تونس".

لكن ذلك لم يؤد الى ثورة على السلطة ولا الى اضرابات من اجل اقصاء هذا المسؤول أو ذاك, فضلاً عن خطفه او اطلاق الرصاص عليه, اللهم الا اذا جاء ذلك على اسس ثأرية عشائرية ذات صلة بأخلاقيات المجتمع الفلسطيني المحافظ التي حدث ان انتهكها بعض القادمين من اجواء تونس وقبلها بيروت الاكثر انفتاحاً.

حدث ذلك لأن السلطة كانت تقوم بما هو مطلوب منها في قمع المقاومة ودفع الاستحقاقات المترتبة عليها بناء على نصوص اتفاق أوسلو, فيما كان الاسرائيليون لا يزالون على آمالهم العريضة بوصول الاتفاق الى النقطة التي ارادوها, وحيث يمكنهم ان يأخذوا صيغة التسوية المناسبة, ومعها التمدد السياسي والاقتصادي في المنطقة.

من هنا يغدو مشروعاً السؤال عن حقيقة البعد الداخلي وحجمه في الصراعات التي تجرى في قطاع غزة, وعما اذا كان ذلك البعد هو الاهم في تأجيج الصراع ام انه البعد الاسرائيلي - الأميركي الذي لم يعد يطيق انتظار تدخل الاقدار لقبض روح ياسر عرفات, في وقت يريد ترتيب الاوراق لما بعده في حال رحيله او تقليم أظافره وإنهاء الجمود في العملية السياسية في حال بقائه.

اي جديد يمكن ان يشير اليه المرء في قصص فساد غازي الجبالي, مع التأكيد ان الرجل مرفوض من معظم الناس, اللهم الا الرئاسة الفلسطينية التي لا تختلف في نهجها عن اي زعامة عربية في تقديمها الولاء السياسي على اي اعتبار, بل ربما فضلت في كثير من الاحيان صاحب الولاء الفاسد على صاحب الولاء النظيف, لأن الاول اكثر اخلاصاً من الثاني الذي يعترض في حال لم يقتنع بمسار معين.

ربما كان المحتجون على فساد الجبالي ابرياء وكذلك حال بعض المنادين باصلاح السلطة, لكن آخرين ربما وقفوا خلف اللعبة لا يبدون كذلك لأن العملية بالنسبة اليهم جزء من آلية السيطرة على القطاع كمقدمة لوراثة السلطة برمتها. وقد لا يكون من التجني بمكان الحديث هنا عن محمد دحلان الذي تجمع الاوساط الاسرائيلية والأميركية على كونه الوريث الحقيقي لعرفات والرجل القادر على الوفاء بالتزاماته في مواجهة القوى الاسلامية.

كان هذا الاخير قد تحرك في الاسابيع الاخيرة على أسس ديموقراطية من خلال اجراء انتخابات داخلية لحركة فتح على رغم رفض الرئيس الفلسطيني لها. وأسفرت الانتخابات بالطبع عن فوز جماعته, في وضع طبيعي جداً بالنسبة الى حركة بات الموظفون والمتفرغون هم عصبها الرئيس, فيما يملك دحلان ما يقدمه لهؤلاء من اجل كسب ولائهم.

القصة اذاً ذات صلة واضحة بالخيارات السياسية للشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية ايضاً, فقد ضاق الاميركون ذرعاً بمماطلة عرفات وألاعيبه ويريدون قيادة اكثر التزاماً بنهج التسوية وخريطة الطريق. وقد بات ذلك اكثر إلحاحاً بعد موقف محكمة العدل الدولية, وقبلها سقوط المراهنات على حرب العراق.

في هذا السياق تبدو خيارات دحلان اكثر وضوحاً في رفضها لخيار عسكرة الانتفاضة وتعاملها الايجابي مع خطة الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة, مع المصريين او من دونهم, الى جانب التعامل مع خريطة الطريق واستحقاقاتها بصفتها خياراً سياسياً مقبولاً بصرف النظر عن نتائجه, وفي ظل رفض مطلق للعنف المسلح.

كان دحلان قد ردد قناعاته التي طالما اعلن عنها في سياق تحقيق اجرته "نيويورك تايمز" في قطاع غزة ونشر قبل يوم واحد من الاحداث, وبدا لافتاً تلويحه بما جرى بعد ذلك في غزة من خلال قوله: "نحن عند مفترق طرق (...) اما ان نحصل على استقلال فلسطيني او نذهب الى (وضع مماثل لوضع) الصومال".

والحال ان التدقيق في الاحتمالين المشار اليهما يؤكد انهما غير واردين, حتى في ضوء ما جرى في القطاع, فلا "الصوملة" واردة كما يشير التاريخ الفلسطيني الحديث, لا سيما خلال الانتفاضة الأولى على رغم كثرة صراعاتها, وكذلك خلال مسيرة اوسلو, ولا الاستقلال الحقيقي متاح من خلال المسار الذي يتبناه دحلان, لأنه بكل بساطة مسار مجرب مع من هم اكثر اعتدالاً بكثير. جرب المسار المشار اليه من خلال مسيرة أوسلو وختامها قمة كامب ديفيد في تموز عام 2000, فهل يتوقع ان تختتم خريطة الطريق باستقلال فلسطيني حقيقي بحسب قرارات ما يعرف بالشرعية الدولية التي استعادتها محكمة العدل الدولية ممثلة في دول مستقلة كاملة السيادة على الاراضي المحتلة عام 1967, بما في ذلك القدس الشرقية؟

نعود الى معارك غزة او صراعاتها. وهنا يمكن القول ان الخطورة لا تكمن في "الصوملة" ولا حتى في انهيار السلطة الذي يخشاه الاسرائيليون اكثر من الفلسطينيين, بصفته خيار مقاومة شاملة لاحتلال حقيقي وليس احتلالا ملتبسا باتفاقات لا قيمة لها, بل تكمن في ذهاب عرفات نحو المسار الذي اختارته الانظمة العربية من اجل تجنب الاصلاح ممثلاً في الدفع من جيب القضية الفلسطينية, اي التنازل للاسرائيليين والأميركيين بدل التصالح مع الشعب وقواه الحية.

من الافضل لعرفات وهو في هذه السن المتقدمة ان يتحدى اللعبة التي تريد دفعه نحو الهاوية او الى الحضن الاسرائيلي, مع ان هذا المسار الثاني لا يبدو وارد القبول بسهولة, وذلك بالالتحام بالشرفاء في حركته ومعهم القوى المهمة في الشارع الفلسطيني وعلى رأسها "حماس" و"الجهاد". ولن يتم ذلك الا بتقديم المخلصين القابضين على جمر الصراع, وليس المنتفعين الفاسدين او ممن تحوم حولهم شبهات التعامل مع العدو او الركون الى خياراته السياسية.

من المؤكد ان حل السلطة وتوريط الاحتلال من جديد أمنياً وسياسياً واقتصادياً هو الافضل لكن عدم حدوث ذلك لا يعني انتفاء خيار الصمود والمراوحة القائم, ما دام التحرك لا يمكن الا ان يكون على ايقاع تنازلات خطيرة يرفضها الفلسطينيون ومن ورائهم الامة بأسرها.

* كاتب أردني.

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع