خطيئة أوسلو و مصير الشعب الفلسطيني

بقلم / الأستاذ عادل أبو هاشم
كاتب وصحفي فلسطيني - الرياض

يتساءل الإنسان الفلسطيني و العربي البسيط المجروح الوجدان بالعجز و خيبة الأمل ، يتساءل إلى أين ؟؟ و هو بين مكذّب ومصدق أن "مزاد التصفية" يتـناوله على مرأى منه و أمام عينيه، وإلى أين ستأخذه مرحلة "تهافت التهافت" التي فرضت عليه منذ مؤتمر مدريد 1991م ..؟

ويتساءل أيضـًا لماذا يحاول البعض من أبناء جلدتنا تكرار خطيئة "أوسلو" في محاولة يائسة لإيهامنا من جديد بأن إنهاء الانتفاضة والدخول في مفاوضات سرية أخرى ستقود إلى نتائج أخرى ؟

كيف خطر في عقول أصحاب "أوسلو الأولى" أن يعيدوا بيع الوهم لشعبهم مرة أخرى في ظلّ حرب الإبادة والتطهير العرقي والفصل العنصري التي تشنّها آلة الحرب الصهيونية ضد أطفالنا ونسائنا وشيوخنا وكلّ ما هو فلسطيني ؟

لماذا يقود (عرّاب أوسلو) حملة ضد الانتفاضة الفلسطينية ؟، لماذا يتوهّم "عرّاب أوسلو" أن شعبه قد انتفض لتحقيق ظروف معيشية يومية ؟ ألم تصل إلى مسامعه الحقيقة التي تؤكّد بأن هذا الشعب قد انتفض لأنه ضاق ذرعاً من المفاوضات على مدى عشر سنوات ؟

كيف صدّق هذا الشعب المغلوب على أمره بأن "أوسلو" قد مات ؟! وهل ما يجري الآن على الأرض الفلسطينية ماهو  إلا تطبيق عملي لاتفاق "أوسلو" المشؤوم ؟ فمن غير المجدي للشعب الفلسطيني أن يخدع نفسه بعد كل هذا.

فعلى مدار العامين الماضيين لم يعرف تاريخ الإنسانية في العصر الحديث مأساة إنسانية أبشع في تضاريسها من مأساة الشعب الفلسطيني .
شاهد العالم صورًا حية تبث يوميـًا من الأراضي الفلسطينية، ليست من وحي الخيال ولا رسمـًا خياليـًا ...يتصاعد الدخان .. القصف لا يهدأ .. سيارات الإسعاف تجوب الشوارع .. ومدفعية الاحتلال وطيرانه وبوارجه الحربية تمطر سيلاً من القذائف على المدنيين في المنازل والمدارس والأسواق التجارية .
و"الحصاد" : شهداء وجرحى ومعوّقون وأسرى جدد ينضمون إلى قافلة من سبقهم، ودمار وخراب هنا وهناك. لا القصف يهدأ، و لا النزف يتوقف.

عشرات المركبات التي تجرّها الحمير محملة بالركاب من كبار السن والمرضى والنساء الحوامل والأطفال والبضائع في طرق ترابية موحلة بدلاً من الطرق التي أغلقتها قوات الاحتلال بهدف تمزيق أوصال التجمعات الفلسطينية في سياسة صهيونية أعادت الفلسطينيين – و العالم في القرن الواحد و العشرين- إلى الحياة البدائية وعصر الدواب، واحتجاز المرضى والنساء الحوامل لساعات طويلة على الحواجز ووفاة العديد منهم أمام أعين جنود الاحتلال، وعمليات القتل عند هذه الحواجز التي أصبحت سياسة رسمية صهيونية.

لم نسمع كلمة إدانة واحدة من منظمات حقوق الإنسان التي تتكاثر يوميـًا في أروقة المخابرات الغربية عن هذا الوضع المزري، ولا كلمة استنكار من جماعة (السلام الآن) الصهيونية تشجب هذه الممارسات، وكأنّ الجميع قد اتفق على أن كلمات الاستنكار والشجب والإدانة هي صناعة عربية.

يقف مئات الفلسطينيين، بل الآلاف، عند "معابر الذل"، ينتظرون أن يمنّ عليهم الصهيوني بتصاريح دخول إلى النعيم، للعمل في "جنة" الاحتلال، ينتظرون وينتظرون، والصهيوني يدقّق ويدقّق، في وجوههم، في أحجامهم، في ملابسهم، في نبض قلوبهم، في مسام جلودهم، وفي عروقهم و الشرايين .و يستمر الإذلال ويطول، وطبعـًا خارج "حفلات" القتل اليومي التي يستمر عرضها بـ "نجاح" منقطع النظير، إنه جزء من الواقع الذي تعوّده العالم، بل أدمنه إلى حدّ افتقاد الشعور والإحساس بآلامه و أثقاله .
وإمعانـًا في الاستهانة بعقولنا صرّح أحد إفرازات "أوسلو" بأنه (لو لم تكن أوسلو .. لأوجدنا أوسلو جديدة. وإن الرد الفلسطيني على هذه المقولة هو الانتفاضة الفلسطينية المباركة .

فـ "أوسلو" قد حوّل مسار شعبنا السياسي إلى مسار بدون هوية، وجعل تاريخنا يبدو و كأنه سجل مفتوح للإحباط واليأس والخيانة .
لقد غرس "أوسلو" في نفوسنا شعور الخوف من الوطنية، وصار بإمكان أي كان أن يشهر الخيانة بكثير من الاعتزاز والشعور بالتفوّق على هذا الوطني المطارد الذي أصبح كالشاة البيضاء في قطيع أسود .

لماذا لا يعترف "عرّاب أوسلو" بأن ما يعيشه الفلسطينيون هذه الأيام ليس أكثر من هزيمة في مسار السلام تضاف إلى هزائمنا في مسارات الحرب ،في زمن "أوسلو" ما أصعب أن تجد مبرراً لموقفٍ أو رأي وطني، وما أسهل أن تجد عشرات التبريرات لمواقف الخيانة، في زمن" أوسلو" وجدنا من لم يكن لهم تاريخ نضالي قد شربوا حليب السباع، و صنعوا من بطولات الآخرين بطولات لهم، ومن فشلهم وعجزهم فشل وعجز الآخرين. في زمن "أوسلو" أصبح الإنسان الفلسطيني يعيش في غيتوهات، فهذا من غيتو (أ) وآخر من غيتو (ب) وثالث من غيتو (ج) وهكذا حتى نهاية الحروف الأبجدية .
في زمن" أوسلو" تحوّل السلام إلى حروب أكثر تعقيداً وأشد ضراوة ،حروب بلا جبهات، وأعداء اختلطوا بالأصدقاء.. و بات من الصعب على الإنسان الفلسطيني البسيط الفصل بين (الإسرائيلي) الذي اغتصب الأرض .. و(الإسرائيلي) الذي اغتصب الانتماء.. بين (الإسرائيلي) الذي انتهك المقدّسات.. و(الإسرائيلي) الذي انتهك الولاء .

وأصبحنا لا نميّز بين الفلسطيني الذي باع نفسه للاحتلال، والفلسطيني الذي أوصل الاحتلال إلى مخادع قادة وكوادر الانتفاضة في أكثر المشاهد عبثية في تاريخ النضال الفلسطيني، عشرات بل مئات استشهدوا أوقتلوا أواغتيلوا -ولا فرق هنا- بأيدٍ فلسطينية لم تكن تستطيع أن تظهر للوجود لولا " أوسلو ".

كان عزاؤنا في الماضي أنها فئة قليلة من ضعاف النفوس لا يشين انحرافهم جهاد ونضال الشعب الفلسطيني، وأصبحوا اليوم وبفضل "أوسلو" فئة تعمل عن سابق إصرارٍ على تدمير ما تبقى من منجزاتٍ حقّقها الجهاد الفلسطيني.

في زمن الانتفاضة الفلسطينية الأولى - قبل أوسلو بسنوات - كان شباب الانتفاضة هم الذين يقتلون العملاء ويطاردونهم من مكان إلى آخر، والعميل الذي ينشد السلامة يذهب إلى المسجد ويعلن توبته أمام شعبه .
وفي زمن الانتفاضة الفلسطينية الثانية - والتي جاءت كأحد إفرازات أوسلو - أصبح العملاء يقتلون كوادر الانتفاضة، وقادة الانتفاضة الذين تطالب سلطات الاحتلال برؤوسهم يسلّمون أنفسهم إلى إدارة السجون في السلطة الفلسطينية .
في الانتفاضة الأولى - في زمن الاحتلال - كان العملاء هم المطاردون .. و في الانتفاضة الثانية - في زمن السلطة الفلسطينية - أصبح قادة الانتفاضة هم المطاردون بلا هوادة من قبل العملاء وجنود الاحتلال، ولا همّ لهم سوى النجاة بأنفسهم .

لم تسلم من القتل الصهيوني المنظّم للفلسطينيين عجوز في الخامسة والتسعين من عمرها ولا وليد عمره شهر واحد.
لم نسمع كلمة استنكار صهيونية واحدة على مقتل النساء والأطفال، ومع ذلك فقد سئم الفلسطينيون من كلمات الاستنكار والشجب والإدانة التي تصدر من المسؤولين في السلطة الفلسطينية عند مقتل كل (إسرائيلي)، ونستغرب كيف لم يطلب هؤلاء من الفلسطينيين في الداخل والخارج والمنافي وفي الشتات وفي مناطق (أ) و (ب) و (ج) و(د)  وفلسطينيي 1948 وفلسطينيي 1967 واللاجئين والنازحين والقائمين والقاعدين أن يرفعوا الأعلام السوداء حداداً على (أبرياء إسرائيل) نحن لانتهم أحداً فهذه مهمة التاريخ، وقد علّمنا التاريخ أنه لا يتآمر لكنه يسجّل المؤامرات .

ولكننا نستغرب أن يظلّ الذين أدخلونا في متاهات وزواريب "أوسلو" يواصلون السير بنا في متاهات جديدة ... تارة في مفاوضات سرية و أخرى علنية تؤدّي بنا في نهاية المطاف إلى"أوسلو" جديدة ومذبحة جديدة وكأن سقوط أكثر من ألفي شهيد وخمسين ألف جريح وألفي معاقٍ وأكثر من 10 آلاف أسير ومعتقل خلال عامين لا تكفي .
ونستغرب أيضاً كيف لم يستدعَ أحد من الذين أداروا المفاوضات السرية في "أوسلو"، وأصدروا مذكراتهم الشخصية التي يتبجّحون فيها بإنجازاتهم الباهرة في تحقيق ما عجز الأوّلون والآخرون من زعماء الجهاد الفلسطيني من تحقيقه طوال قرن من الزمان ! .. كيف لم يستدعَ أحد منهم حتى ولو في مناظرة تلفزيونية ليصارح شعبه كيف أوصله إلى طوابير النعوش اليومية .
و نستغرب ـ أيضاً وأيضاً وأيضاً ـ بأن أحداً منهم أو من أبنائهم لم ينضم إلى قوافل الشهداء.

ونصاب بالذبحة عندما يخرج علينا "عرّاب أوسلو" ويتهم شعبه بعسكرة الانتفاضة ويبرّئ الاحتلال .. فهذا الرجل وجد في نهاية مطاف "أوسلو" بأن مشكلته الحقيقية لم تعد مع عدوّه السابق، بل مع شعبه الحالي و(إسرائيل) تدرك ذلك جيدا، وهي تحاول مساعدته بكلّ يد حانية، وعرّاب "أوسلو" استقر في محطة لا يرى من نافذتها غير مشهدٍ واحد يتعلّق بالخلافة .

إذاً فلا معنى للسلام بدون عرّاب السلام ،إنه سرّ من أسرار أوسلو، ما أكثر الأسرار .. و ما أصغر أوسلو.

بعد توقيع" أوسلو" أعلن العرّاب بأن هذا الاتفاق إما أن يؤدّي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة أو يكرّس الاحتلال لأرضنا وذلك حسب تعاملنا معه ! لأن آلية الاتفاق تؤدّي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة .. !!
إذاً فالشعب الفلسطيني هو الذي يحاصر تل أبيب ويحتل أجزاءً منها في الليل وينسحب في الصباح بعد تدمير منازل (الإسرائيليين) و قتل أطفالهم وإجهاض نسائهم وطردهم في العراء.. !!
والشعب الفلسطيني هو الذي أعاد احتلال المدن والمخيمات والقرى (الإسرائيلية) وقتّل أبنائهم ودمّر مؤسساتهم وحاصر مقر رئاستهم .. !!
والشعب الفلسطيني هو الذي يستخدم طائرات الـ إف 16 والأباتشي الأمريكية الصنع وقنابل الغاز المحرمة دولياً ضد المدنيين العزل، ويقطع الماء والكهرباء عن المستوطنات الصهيونية لأشهر طويلة .. !!
والشعب الفلسطيني هو الذي يقتحم المدارس وقاعات العلم الصهيونية مستخدماً الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع .. !! وهو الذي يحاصر المدن والمستوطنات الصهيونية مستخدماً حرب التجويع وتخريب الممتلكات الزراعية وإغلاق المعابر الحدودية ومنع دخول المواد الغذائية والإمدادات الطبية والمحروقات إلى المدنيين الآمنين (الإسرائيليين) .. !! لهذا فشل "أوسلو" في إقامة الدولة الفلسطينية لأننا لم نعرف أن نتعامل معه.. !!

إنه مرض أكبر منه مؤامرة .. !!إنها عقدة نقص أكبر منها مسايرة لمناخ بات يرى العلاقة مع العدو طبيعية والعلاقة مع الأخ مسألة فيها نظر . !
مواطن فلسطيني دمّر منزله مؤخراً في رفح عندما سمع عرّاب "أوسلو" يتبجّح بإنجازاته على صعيد إقامة الدولة الفلسطينية في المحاضرة التي ألقاها مؤخرًا في غزة ، قال : "ليتها لم تزن و لم تتصدّق" !! ..

إن على "عرّاب أوسلو" وزمرة المتساقطين الذين يكيلون التهم للانتفاضة في محاولة يائسة لكسب رضى العدو الصهيوني أن يدركوا جيدًا شرعية المقاومة في ممارسة حقوقها وواجباتها ، تلك الحقوق التي كفلتها كل الأنظمة وا لشرائع و هي حقوق تولّدت من معاناة طويلة لآثار احتلال طارد زعماء وقادة وكوادر المقاومة وقتلهم أمام عائلاتهم وأطفالهم، وانتقل بكلّ هذه الجرائم من صفّ الدولة إلى صف العصابة .

إن الشعب الفلسطيني هو شعب النضال والتضحيات، لم يهن ولم يستسلم منذ أكثر من قرن من الزمن، ولم يتوقف شلال الدم على أرض فلسطين على الرغم من كل التسويات والتـنازلات والانهيارات، كان الشعب الفلسطيني يخرج دائمـًا من تحت الأنقاض كطائر الفينيق فيعيد الروح ليس فقط إلى الانتفاضة بل وإلى كل الأمة العربية وإلى كل الشعوب المحبة للسلام و العدالة ..

لقد استخدم الشعب الفلسطيني وطوال قرن من الزمن، كل أشكال ووسائل النضال المعروفة وغير المعروفة، حتى تلك التي لا يتخيّلها بشر .. من وفود إلى المحافل الدولية، إلى جمعيات إسلامية مسيحية، إلى إضرابٍ واعتصام، إلى عصيان مدني دام ستة أشهر (1936)، إلى التسلّل الفردي عبر الحدود لرؤية القرية والبيارة والمنـزل، إلى طعنٍ بالسكاكين، إلى بيع حليّ الزوجة لشراء بندقية، إلى كفاح مسلّح لم يعرف العالم له مثيلاً، إلى حرب الجيوش النظامية على الحدود، إلى العمليات الاستشهادية، إلى .. وإلى .. الانتفاضة حيث الحجارة هي السلاح، والطفل داوود يواجه الوحش متسلّحـًا بالمقلاع .. ولا يوجد قوة في العالم تستطيع أن تـنزع عن هذا الشعب حقّه في الجهاد و المقاومة والحياة الحرة الكريمة فوق أرضه .
المهم أن لا تضيع الإنجازات والتضحيات ولنتذكر مقولة : (إن الإنسان لا يموت إلا حين يموت حلمه)، فلنعمل جميعـًا على إبقاء الحلم حيـًا في عيون الأجيال القادمة .. في عيون أطفال الحجارة .. أبطال النصر، رجال الدولة الفلسطينية المستقلة و عاصمتها القدس، لأن هذا الحلم
يلخّص كل القيم الإنسانية في العدالة و الحرية و الاستقلال.

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع