وقف عسكرة الطوشات!!
بقلم الدكتور : صلاح
البردويل
اتصل الأولاد قلقين : لماذا تأخرت يا أبي؟، دخل الليل وهناك أنباء شبه
مؤكدة نقلها إلينا الأمن الوطني مفادها أن هجوماً وشيكاً على المخيم هذه
الليلة، الدبابات تطل غربي البيوت المهدمة من المخيم، قلت: لا تقلقوا، ليست
هذه هي المرة الأولى ، ولن تكون الأخيرة، وهل تتوقعون مثلاً أن تصدر
الحكومة قراراً بوقف عسكرة الهجومات الصهيونية على المخيم؟! انتظروني
قليلاً ، فإني قادم حالاً ريثما أشتري لكم مدفأة.
دخلت محل الأدوات الكهربائية، وسألت البائع عن سعر المدفأة، وبدأ الرجل
يقلب لي الأنواع، ويشرح لي مميزاتها، ولا سيما وهو يدرك حاجتي لها في هذا
الشهر البارد كانون، قلت: لا يهم، أعطني مدفأة جيدة بمعاييرك أنت، فأنت
أفهم مني في هذا الأمر، وقبل أن أتناول المدفأة من الرجل انطلقت في المكان
أصوات رصاصات، قلت: أول الغيث قطرة، ها أنتم مثلنا تسمعون الرصاص، سكت
الرجل وقال: لعلها رصاصات فرح، قلت: في كانون؟! قال: ولماذا تستغرب سماعنا
الرصاص؟ هل تظن أنكم وحدكم في المخيم تواجهون اليهود؟ ألم تر كيف فعل
اليهود العام الماضي بهذه المنطقة؟ ألا ترى آثار الدمار ماثلة حتى الآن؟
قلت: أعلم ، ولكني قياساً بالمخيم كنت أغبطكم على هدوء منطقتكم.
اشتد إطلاق النار، فارتجف البائع، وأدرك أن الأمر ليس فرحاً، وصرخ بابنه
الواقف بالباب أن يدخل المحل بسرعة بعيداً عن الرصاص الذي أخذ ينهال بغزارة
في كل مكان، واختلطت أصوات المارة الذين بدأوا يصرخون : اجتياح، بأصوات
الأطفال والنساء الذين تدافعوا إلى داخل المحلات للاحتماء من الرصاص
الطائش، قال البائع: يبدو أنهم عادوا لما فعلوا العام الماضي، قلت: دون سبب
أو إنذار، قال وهو يلملم معروضاته من الأبواب: لا يحتاجون إلى عذر، ثم طفق
البائع يغلق الأبواب الحديد، فهممت بالخروج لولا أن ألحّ عليّ أن لا أخرج،
لاسيما وأن كثافة النيران كانت تتصاعد، وأصوات سيارات الإسعاف بدأت تغزو
المكان، قال البائع: يبدو أن هناك إصابات ، قلت: يبدو... قلت: ولكننا لم
نفهم حتى الآن جهة الهجوم، ولا نوعه، قال: ليس لنا إلا أن نستمع إلى
الأخبار العاجلة من المذياع، قلت: افتح إذاعة الأقصى، قال: إذاعة الشباب
أسرع، قلت: لن نختلف الآن على الإذاعات، المهم أن تجد إذاعة لم تقصف حتى
الآن، قال: ماذا تقصد؟ قلت: هل سمعت عن صحيفة الرسالة؟ قال: نعم، قلت: لقد
قصفوها بالأمس بالقنابل، قال: اليهود لا يتركون وسائل الإعلام تأخذ راحتها،
قلت: توكل على الله، لم نسمع في الإذاعات خبراً عاجلاً، وكان الأسهل من ذلك
أن نطل خارج المحل لنعرف أبعاد المعركة ولكن الخوف من الرصاص الطائش هو
الذي منعنا.
في هذه الأثناء دخل علينا رجل كبير السن يلهث، قلنا من أين الهجوم؟ قال: من
الشرق، قلنا: والشباب؟ قال: على أسطح البنايات وفي الأزقة، قلنا: اللهم احم
الشباب وانصرهم. نظر الرجل إلينا بنصف عين كمن شعر بأننا نسخر منه، ثم
اكتفى بتقليب يديه، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم واصل: أين الحكومة؟
أين من يريدون منع الفلتان الأمني، أليس هذا السلاح في يد هؤلاء الأولاد
خراب للديار؟ قلت: استغفر الله يا حاج، أتقول عن سلاح المقاومة خراب ديار؟
قال: عن أي مقاومة تتحدث يا ولدي؟ قلت: هؤلاء الشباب هم الذين يتصدون لهذه
الهجمة الصهيونية الجبانة على وسط البلد، قال: هل تتحدث بكامل وعيك؟ قلت:
ألا تسمع الرصاص وسيارات الإسعاف، وصرخات النساء والأطفال؟ قال: ليتني لا
أسمع، إنها طوشة يا ولدي بين عائلتين!! قلت، وقد اقشعر بدني: طوشة؟! قال:
نعم، وبالأسلحة الرشاشة!!
انسللت من المحل دون أن أتكلم بكلمة واحدة، سوى أنني كنت أردد قول: لا حول
ولا قوة إلا بالله، وكان صوت الرصاص يتردد في المكان، بينما كان المارة
يحتمون بالأزقة وقد خلت الطريق تماماً لسيارات الإسعاف التي كانت تنقل
الجرحى، ولم يجد أفراد الشرطة الذين تواجدوا في المكان سوى بائع البرتقال
الذي رفض إخلاء بسطته، وحاولوا إقناعه بخطورة الأمر، لكنه كان يصرخ في حالة
من الهستيريا: اتركوني وامنعوا عسكرة الطوشات، وأخذ يقذفهم بحبات البرتقال،
وعندها انقضوا عليه لاعتقاله بتهمة إزعاج المواطنين الآمنين، ولم يفلته من
أيديهم سوى رشقات الرصاص التي أجبرتهم على الاحتماء بالأزقة مثل باقي
الناس.
|