أبو مازن ومسلسل التنازلات المجانية
بقلم:
د. خالد محمد صافي*
إن
تصريحات أبي مازن - رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية - الأخيرة حول حق
العودة تشير إلى أن قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية لا تقرأ التاريخ
جيداً، وأنها لا تزال تتنازل، وتجرد نفسها من أوراقها التفاوضية الواحدة
تلو الأخرى وبدون أدنى مقابل. حيث قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس في
مقابلة نشرت الأحد الموافق 20/2/2005 في مجلة دير شبيغل الألمانية
الأسبوعية: "إن السلطة الفلسطينية ربما تكون مستعدة لقبول عدم إمكان عودة
كل اللاجئين إلى ديارهم السابقة بموجب اتفاقية سلام محتملة مع إسرائيل...
إلى أين سيعود اللاجئون سيكون محل مفاوضات. وإننا على استعداد لمناقشته...
لدينا أكثر من خمسة ملايين لاجئ ونعرف أنهم لن يستطيعوا كلهم العودة. البعض
ربما لا يريد ذلك لأنهم يعيشون حياة طيبة في أمريكا أو أنهم مرتاحون في
الأردن ولكن يجب تعويضهم". ويبدو أن رئيس السلطة أصبح يوجه خطابه للإعلام
الغربي وللساسة الأوروبيين والأمريكيين والإسرائيليين أكثر من الاعتناء
بالتوجه نحو أفراد شعبه، وثوابتهم الوطنية. فها هو في مقابلته الصحفية يطرح
إمكانية التضحية بحق العودة باعتباره حق مقدس لكل فلسطيني مقابل تسوية
سلمية مع إسرائيل. متناسياً أن الفلسطيني الذي لا يرغب بالعودة الآن ربما
سيعود غداً أو بعد غد، والفلسطيني الذي لا يستطيع العودة الآن يجب أن يحتفظ
هو وأبناءه وأحفاده وحتى أحفاد أحفاده بحق العودة وقتما يشاءون. المهم أن
حقهم المقدس والفردي يجب أن يكون غير قابل للتنازل والتفريط. وأن مبدأ
التعويض يجب أن يرفض حيث أن الأوطان لا تباع وتشترى. كما أن عبارة "إلى أين
سيعود اللاجئون سيكون محل مفاوضات" تعبر ضمناَ عن تعاطي الجانب الفلسطيني
مع الرؤية الإسرائيلية بعودتهم إلى مناطق السلطة الفلسطينية وليس إلى
إسرائيل للحفاظ على النقاء اليهودي للدولة العبرية. ولا يسعني هنا إلا
تذكير أبا مازن - الذي يفترض أن يكون خبيراً في الشؤون الإسرائيلية بعد أن
ألف العديد من الكتب حول ذلك- أن اليهودي وأنصاف اليهودي وحتى الايهودي
يتمتع بحق العودة إلى إسرائيل تحت إدعاء الأساطير الصهيونية بالعودة إلى
وطنهم (المزعوم) بعد ألفي عام في مقابل حرمان الفلسطيني من العودة إلى
منزله الذي لا يزال يحتفظ بمفتاح بابه، أو على الأقل يستطيع أن يشير إلى
مكانه ويرسم حدوده في بضع ثوان أو دقائق. ولا بد من التأكيد هنا على النقاط
التالية:
- إن
أبا مازن وكما يبدو قد ضرب بعرض الحائط في قمة شرم الشيخ كل تضحيات الشعب
الفلسطيني في انتفاضة الأقصى كما ضرب بعرض الحائط في أوسلو كل تضحيات
الانتفاضة الأولى. فقد تم الإعلان عن إنهاء الانتفاضة بلا مقابل. وتنازل
أبو مازن عن ورقة المقاومة مجاناً ودون مقابل سوى الإفراج وحسب المعايير
الإسرائيلية عن خمسمائة معتقل فلسطيني لم يتبق لمعظمهم سوى أشهر معدودة.
واستعادة بضع عشرات من جثث الشهداء. ولا بد من التساؤل هنا هل الإفراج عن
المعتقلين هو غاية أم وسيلة. إن المعتقلين المفرج عنهم والذين لا زالوا في
المعتقلات والسجون الإسرائيلية، والشهداء الذين دفنت جثثهم والذين لا تزال
جثثهم بانتظار الإفراج عنها من الجانب الإسرائيلي لم يعتقلوا أو يستشهدوا
فقط من أجل الإفراج عنهم أو عن جثثهم لاحقاً بل من أجل قضية وطنية وضمن
مشروع وطني واستحقاقات وطنية لا بد من تحقيقها. وأن الأداء السياسي
الفلسطيني الذي استجاب للأجندة الإسرائيلية (التي حذرنا منها في مقال سابق)
في شرم الشيخ كان في أدنى مستوى له بالنسبة لطموحات شعبنا الفلسطيني. وكانت
قمة شرم الشيخ قمة النجاح الإسرائيلي مائة بالمئة لأنها سارت وفق الأجندة
الأمنية الإسرائيلية ولم تتجاوزها قيد أنملة.
- إن
الجانب الفلسطيني لم يحقق شيئاً من قمة شرم الشيخ مقابل تقديم مقاومته
قرباناً على مذبح القمة. بينما الجانب الإسرائيلي يواصل تنفيذ أجندته وفرض
رؤيته على الأرض لحسم قضايا المفاوضات النهائية من طرف واحد. وإليكم بعض
الأمثلة على ذلك وعلى سبيل المثال لا الحصر. فأولاً: استمرار الجانب
الإسرائيلي في بناء الجدار الفاصل لخلق حدود الحل النهائي حسب الرؤية
الإسرائيلية. فالجدار الفاصل هو جدار سياسي وليس جدار أمني، ولو سلمنا
جدلاً بالزعم والرواية الإسرائيلية بأنه بني لأسباب أمنية فما هي الحجة من
مواصلة بنائه بعد أن تم إنهاء الانتفاضة الفلسطينية وبالتالي توقف الهجمات
الفدائية ضد العمق الإسرائيلي. وحسب الإعلام الإسرائيلي فإن الجدار العنصري
الفاصل سوف يضم إلى إسرائيل نحو 10% من الضفة الغربية، هي مساحة الكتل
الاستيطانية القائمة والمنوي إقامتها ومساحات التطوير الخاصة بالتمدد
الطبيعي السكاني حسب الزعم الإسرائيلي. وثانياً: مصادقة شارون على بناء 400
وحدة سكنية جديدة حول مدينة بيت لحم. وبناء مدينة استيطانية جديدة بإدعاء
استيعاب مستوطني قطاع غزة فيها. وهنا يحاول شارون أن يسوق هذه الخطة دولياً
لنيل الرضا والموافقة على أساس أنها تأتي كمكافئة له مقابل الانسحاب من
غزة. وبالتالي فإن شارون يقايض انسحابه من قطاع غزة بتوسيع وشرعنة استيطانه
في الضفة الغربية. وهذا ما صرح به شارون قبل عدة أيام بقوله: " إن الانسحاب
من قطاع غزة سيعزز تمسكنا بالضفة الغربية، وأن التجمعات الاستيطانية في
الضفة الغربية ستكون جزءاً من الدولة اليهودية". بالتالي فقد نجحت إسرائيل
سابقاً في تكريس الدولة اليهودية كأمر واقع أصبح للأسف معترف بشرعيته
دولياً وعربياً وحتى فلسطينياً، وهي تسعى الآن وضمن رؤية إسرائيلية واضحة
المعالم لتكريس دولة المستوطنين في الضفة الغربية وسط صمت دولي وعربي وربما
فلسطيني رسمي. وثالثا: إعلان إسرائيل النية عن تدمير حي فلسطيني في منطقة
القدس وقرب الجدار من جهة، وإعادة تطبيقها لقانون أملاك الغائبين في القدس
بشكل واسع لإحكام سيطرتها على الأملاك العربية هناك لتعميق وتكريس واقع
السيطرة الإسرائيلية الكاملة على القدس كعاصمة أبدية لإسرائيل من جهة أخرى.
حيث من المفترض حسب ذلك أن يفقد آلاف الفلسطينيين الذين يقيمون في الضفة
الغربية وخارجها ومن أصول مقدسية لأملاكهم هناك، وتهويد تلك الممتلكات
بالطبع.
- إن
الإجراءات الإسرائيلية تتم وسط تقاعس الأداء الفلسطيني وعدم ارتقاءه إلى
مستوى التحدي المطلوب. فقد فشل المفاوضون الفلسطينيون في جلب قمة شرم السيخ
نحو الاستحقاق السياسي مما يهدد بهدر التضحيات الجسام للشعب الفلسطيني في
انتفاضة الأقصى. ويبدو أن ما حدث في شرم الشيخ هو الوصول إلى تهدئة مقابل
تهدئة ليس إلا. وأن القادم - إن لم تستيقظ القيادة الفلسطينية من سبات
نومها العميق- لن يتعدى سوى تحسن ملموس في الأوضاع المعيشية الفلسطينية من
فتح المعابر والطرق، والسماح لآلاف العمال بالدخول لإسرائيل للعمل،
والإفراج عن آلاف أخرى من المعتقلين وفق المعايير الإسرائيلية. أما قضايا
الحل النهائي فسيتم تسويتها أو فرضها ضمن الأجندة والرؤية الإسرائيلية
الأمريكية.
إن
التصريحات والأنباء التي تم تناقلها حول عزم رجل الأعمال الملياردير
الإماراتي -محمد العبار- شراء بيوت المستوطنات في قطاع غزة، والبيوت
البلاستيكية الزراعية التي تصل مساحتها إلى 56 كيلومتر مربعاً ونحو 12
بئراً ارتوازياً مقابل 56 مليون دولار تقريباً تعد مكافأة لشارون وللحكومات
الإسرائيلية على سياستها الاستيطانية. فهذه المستوطنات باطلة شرعاً وما
يقام على باطل فهو باطل. وينم ترحيب السلطة الفلسطينية بهذه الصفقة عن قصور
سياسي وقانوني. فأولاً: يجب أن تلزم إسرائيل بترك هذه البيوت كتعويض عن
سنوات الاحتلال الطويلة التي استنزفت فيه إسرائيل الأراضي التي أقيمت عليها
المستوطنات زراعياً ومائياً. وثانياً: إن هذه البيوت يجب أن تكون تعويضاً
عن آلاف المنازل التي هدمتها إسرائيل منذ العام 1967 والتي تضاعف أرقامها
في الانتفاضة الحالية. وثالثاً: وكما كتب الزميل د. فايز أبو شمالة أن هذه
المستوطنات وبيوتها قد تم شرائها بدماء الشهداء الأبرار الذين ضحوا بدمهم
من أجل تحريرها، وأن يعاد الحق إلى أهله، وتعود أراضي المستوطنات وما عليها
إلى الشعب الفلسطيني.
- إن
القيادة الفلسطينية لا زالت تتخبط في محيط ضبابي سياسي. فهي لا تمتلك كما
يبدو رؤية سياسية واضحة تستند على الثوابت الفلسطينية. فقد استبدل السيد
أبو مازن في خطاباته وتصريحاته المصطلح التقليدي الذي أتحفتنا به قيادتنا
الوطنية طوال عقودها الماضية وهو "الثوابت الوطنية الفلسطينية" بمصطلح جديد
"المصلحة العليا للشعب الفلسطيني"، وهو مصطلح نسبي فضفاض غير محدد المعالم
والرؤية. ويتم ذلك في الوقت الذي ينشغل فيه رئيس السلطة و رئيس الوزراء
بتشكيل حكومة فلسطينية لم تر النور منذ أكثر من شهر. وسط إشاعات تتناقل حول
خلاف يسود بين قطبي السلطة حول تشكيلها في محيط من المستوزرين المتكالبين
على جعل الوزارات ضمن الإرث العائلي لهم. ولا يوجد في وسط حمى الصراع
الاستوزاري مَنْ يرتق إلى مستوى مجابهة التحدي الإسرائيلي الخطير.
إن
قيادة فلسطينية لا تقرأ الماضي ولا تحسن فهم الحاضر من غير الممكن أن تحقق
شيئاً في المستقبل. وأن غداً لناظره قريب.
* كاتب
وأكاديمي فلسطيني مقيم في غزة.
|