عباس وكابوس المقاومة

 عبد الباري عطوان

صحيفة القدس العربي اللندنية 17/1/2005

 

لم يتصور السيد محمود عباس (أبو مازن) رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية الجديد أن تحتفل فصائل المقاومة المسلحة بتنصيبه في موقعه الجديد بعملية فدائية نوعية ضخمة استهدفت موقعاً عسكريا إسرائيلياً في معبر المنطار أدت إلى مقتل ستة جنود إسرائيليين وإصابة عشرين آخرين، فقد اعتقد الرجل، مخطئاً، أن تهديه هذه الفصائل هدنة، تطول أو تقصر، لعله يستمتع بالمنصب الذي طالما تطلع إليه، دون منغصات. ولكنه مثلما تسرع بالإعلان عن عزمه لقاء أرييل شارون في أسرع وقت ممكن، والتأكيد على برنامجه الانتخابي بإنهاء عسكرة الانتفاضة، سارعت الفصائل المسلحة، وإحداها من داخل تنظيمه نفسه (كتائب شهداء الأقصى)، بإرسال رسالة بليغة في معانيها، من خلال العملية الأخيرة، تذكره بحقيقة الأوضاع على الأرض، وتؤكد له، وبطريقة غير مباشرة أن كلمة السر في المرحلة المقبلة، هي المقاومة المسلحة، وليس استجداء الحلول المنقوصة.

 

أرييل شارون سارع بوقف الاتصالات مع شريكه الجديد والمنتظر (أبو مازن) قبل أن تبدأ، وألغى مهلة منحه إياها، لم يسمع بها أحد، وأطلق يد الجيش الإسرائيلي وجنرالاته للانتقام، وكأن يدي الجيش كانت مغلولة إلى عنقه، وكأن عمليات القتل والتدمير اليومية التي يمارسها بطريقة بشعة مجرد نزهات، وتربيت على ظهر المواطنين الفلسطينيين، مكافأة لهم على انتخابهم رئيساً معتدلاً.

 

كنت أتمنى لو شاهد العالم الغربي، والرئيس الأمريكي جورج بوش، على وجه التحديد، اللقطات الحية التي بثتها قناة الجزيرة الفضائية للجنود الإسرائيليين يطلقون النار بهدف القتل على فتية صغار هرعوا لنجدة زميل لهم، قتلته الرصاصات الإسرائيلية فوق حطام منزله في مدينة رفح الصامدة مصنع الشهداء ورجال المقاومة.

 

عملية المنطار خطيرة ليست فقط في توقيتها، وإنما في دقة تنفيذها، فهي نتاج تخطيط ومشاركة ثلاثة فصائل فلسطينية مقاومة (حماس، كتائب شهداء الأقصى، ولجان المقاومة الشعبية)، وهي المرة الأولى التي تستخدم فيها هذه المنظمات أسلوب العمليات المزدوجة، أي استخدام شاحنة محملة بالديناميت يقودها استشهادي، لفتح ثغرة في الجدار، يتسلل منها استشهاديان آخران ويهاجمان موقعا للقوات الإسرائيلية في منتصف الليل.

 

نجاح هذه العملية يعكس وجود عقلية عسكرية جبارة، وتقدماً نوعياً كبيراً في التخطيط والتنفيذ، ويؤكد أن رجال المقاومة مازالوا يملكون عنصر المفاجأة، واختراع وسائل جديدة للوصول إلى أهدافهم، تعتبر أكثر تقدماً من عقلية التحصينات الدفاعية التي يتبعها الجيش الإسرائيلي وجنرالاته.

 

بمعنى أوضح، إن عملية المنطار هذه ربما تكون بروفة لإلغاء مهمة الجدار العنصري الفاصل في الضفة الغربية مستقبلاً، الذي أقامه شارون والجنرال موفاز وزير دفاعه لوقف العمليات الاستشهادية. فالجدار قلل من هذه العمليات فعلاً، ولكنه نجاح مؤقت، في طريقه للانهيار، والتحول إلى عبء أمني، تماماً مثلما أصبحت المستوطنات الإسرائيلية في قطاع غزة، وبعض مناطق الضفة، بفضل الصواريخ البدائية التي قلل ويقلل من شأنها السيد عباس ومجموعة من مستشاريه الأمنيين، باعتبارها فرقعات تلحق الضرر بالشعب الفلسطيني، وينسي هؤلاء أن هذه الفرقعات هي التي أجبرت شارون على التراجع عن كل تاريخه الأيديولوجي، وإعلان الانسحاب من القطاع، وهي التي دفعت عشرات العائلات من المستوطنين للهرب إلى تل أبيب طلباً للسلامة، وهو ما لم تفعله كل لقاءات أوسلو على مدى عشر سنوات من المفاوضات المهينة، والسياحة المشتركة مع المفاوضين الإسرائيليين في حمام سباحة فندق الهيلتون في طابا!

 

شارون يتخبط، فالعملية الأخيرة لم تستهدف أطفالاً أو مدنيين حتى يحشد عدسات التلفزة للتركيز على أشلائهم، وإظهار وحشية الفلسطينيين، كما أنه لم يعد قادراً على ممارسة اسطوانته المشروخة بتحميل ياسر عرفات المسؤولية عنها، فشماعة عرفات لم تعد موجودة، والرئيس الفلسطيني الذي حل محله هو صديق قديم طالما استقبله في مزرعته تحت جنح الظلام، وبحث معه كيفية دفع عملية السلام علي مائدة عشاء أو غداء.

 

مأزق شارون في ظل رئاسة عباس أكبر بكثير من مأزقه في ظل رئاسة سلفه عرفات، فالرجل انتخب بطريقة ديمقراطية، ووفق المواصفات الأمريكية، أثبت الشعب الفلسطيني من خلالها أنه على درجة كبيرة من الدهاء. فلسان حاله وهــــو يذهب إلى صناديق الاقتراع كان يقـول، أنتم تريدون عباساً هاكم عباساً فماذا أنتم فاعلون به وله؟

 

يخطئ عباس إذا رضخ لضغوط شارون، واستخدم القوة لنزع سلاح المقاومة، ويخطئ أكثر لو استمع إلى بعض مستشاريه الأمنيين الذين لا يفهمون من الأمن غير ما لقنه لهم بعض مدربيهم الأمريكيين والإسرائيليين، وعليه أن يتأمل جيداً عملية المنطار هذه ومعانيها ودلالاتها. وعليه أن يتذكر دائماً أنه ليس ياسر عرفات. فكلمة من الراحل كانت تلغي زعامات، وتنفس بالونات قيادية متضخمة. ولو كان عرفات يريد أو يستطيع نزع سلاح المقاومة لفعل، ولكنه كان ذكيا مرتين، الأولى لأنه يعرف أن شارون لا يريد السلام، ولذلك لا يريد أن يدفع ثمناً باهظاً دون مقابل، والثانية لأنه يعلم أن نزع سلاح المقاومة سيكون نهايته الشخصية. ورمزيته السياسية وأبوته للشعب الفلسطيني.

 

الشيء الوحيد الذي يستطيعه عباس في المرحلة المقبلة، وقد تنصب رسمياً، هو تعلم فن الانتظار المناور، الذي كان الرئيس الراحل عرفات أبرز أساتذته، على أن يعمل في الوقت نفسه على ترتيب البيت الفلسطيني داخلياً، أي تفعيل المؤسسات، وقطع دابر الفساد، واجتثاث العفن الإداري، ورد الاعتبار للقضاء، وإنهاء المحسوبية.

 

الأمل الوحيد للسيد عباس في عهده الجديد أن يرحل شارون، ويدرك الإسرائيليون أن العد التنازلي لخسارتهم قد بدأ، وينتخبون زعيماً معتدلاً تماماً، مثلما فعل الفلسطينيون، بعد ذلك يمكن الحديث عن السلام، السلام القائم على الشرعية الدولية وليس على العدل الأمريكي .

 

الأمريكيون يريدون انتخابات في العراق حتى يهربوا من الجحيم الذي أوقعوا أنفسهم بأنفسهم فيه، وشارون بدأ هذا الهروب مبكراً عندما أعلن انسحابه من جحيم قطاع غزة. النصر هو صبر ساعة. ونأمل أن يعي السيد عباس وجنرالاته هذه الحقيقة ويكتشفوا فضيلة الصبر.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع