أبو مازن وحماس: كيف يمكن تفادي الحرب الأهلية؟*

خالد الحروب**

31/01/2005

كل "التطمينات" التي يرسلها ويكررها القادة الفلسطينيون، سواء أكانوا في السلطة أم في حماس، بشأن "استحالة الحرب الأهلية الفلسطينية" تأتي في سياق تفكير التمنيات إن لم يتم استباق الأمور بشكل حكيم. الخيارات التي يتمترس خلفها كل طرف لا تلتقي في منتصف الطريق بل تتعارض رأسيا. كلا الطرفين يقع تحت ضغوط مختلفة ومركبة: السلطة تواجه ضغوطا هائلة من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، وهي أسيرة برنامجها التسووي تحت سقف أوسلو المنخفض، وحماس في المقابل تواجه ضغوطا بضرورة الرد العسكري من جانب قواعدها والشرائح الشعبية الغاضبة على التوحش الإسرائيلي الذي لا يتوقف، وهي أسيرة برنامجها المقاومي الذي لا سقف له. والمسئولية الوطنية يتوزعها الطرفان إزاء إبقاء الوضع الدقيق تحت السيطرة وإلا آلت الأمور للانفجار. بين برنامج السقف المنخفض وبرنامج اللاسقف هناك فراغ كبير تتسيده الحيرة التي هي عنوان المرحلة فلسطينيا. وفي هذا الفراغ الكبير يتوجب أن تخلق السلطة وحماس مكانا وسطيا لا لجمع برامج متناقضة لأن ذلك غير ممكن، بل على الأقل لتفادي الخطر الأكبر وهو تصادم البرنامجين دمويا.

كل من البرنامجين حظي في الآونة الأخيرة بما يقويه ويدعمه، ولم تكن قوة أحدهما تتم على حساب الآخر، وهنا مكمن الخطر. برنامج السلطة استقوى بالانتخابات وبالشرعية الجديدة، وبرنامج حماس المقاومي استقوى بنتائج المقاومة على الأرض (حتى وإن كانت جزئية فإنها وسعت الشعبية وكرست الصدقية)، رغم تضعضع منطقه السياسي بعد الانتخابات الرئاسية.

تفاصيل الصورة تقدم لنا تعقيدات أكثر: أبو مازن يتمتع الآن بشرعية لا يمكن أن تنقضها مماحكات حماس حول نسبة من شارك في الانتخابات الرئاسية من أصل من يحق لهم الانتخاب، خصوصا أن حماس قاطعت الانتخابات جملة وتفصيلا، والحديث بأن نصف الناخبين لم يصوتوا ليس له قيمة كبيرة، إذ لا يمكن أن يتوقع المرء أن يصوت مائة في المائة ممن يحق لهم التصويت في أي انتخابات مهما كانت حساسة وساخنة.

خطأ إستراتيجي

وفي أي حال فإن حماس نفسها اعترفت بفوزه رئيسا ولم تقل إنه رئيس غير شرعي. المهم هنا هو أن خطأ حماس الإستراتيجي في الإحجام عن المشاركة في تلك الانتخابات ترشيحا أو دعما لأي من المرشحين أضعف ولو مؤقتا الأرضية السياسية التي تقوم عليها، أو النقد الذي يمكن أن توجهه إلى أبو مازن. فلو شاركت ولو جزئيا عن طريق دعم مرشح ما لكان نجاح أبو مازن بنسبة متواضعة، أي في خانة الخمسينات، في مصلحة الوضع الفلسطيني عموما، لأن مثل هذا الفوز يعين أبو مازن نفسه على التذرع بأن خلفه معارضة قوية وبالكاد حصل على الشرعية ولا يستطيع الذهاب إلى آخر الشوط. أما الفوز الذي تحصّل عليه فيعني أن لديه شرعية كبيرة تؤهله بل تحرجه أمام الإسرائيليين والأمريكيين كي يقوم بما يطلبونه منه.

النقطة الثانية التي تصب في صالح أبو مازن وتقوي موقفه أمام حماس هي أنه كان واضحا وصادقا في برنامجه السياسي الانتخابي الذي تضمن ضرورة إيقاف "عسكرة الانتفاضة"، وهو خاض الانتخابات وفاز فيها ببرنامج يدعو إلى وقف ما تقوم به حماس. وسواء أتفق المرء أم اختلف معه حول برنامجه فإن الأكيد أنه يستحق الاحترام لأنه لم يخدع الناخبين ولم يبعهم شعارات فارغة تعودوها من جانب قيادات أخرى. والتناقض الذي تقع فيه حماس الآن هو أنها من ناحية تقر بفوز أبو مازن وأيضا تمنت له النجاح (أي وقف عسكرة الانتفاضة)، وهي من ناحية أخرى استمرت في عملياتها التي تعسكر الانتفاضة، من دون التقليل أبدا من المسئولية المركزية للوحشية السياسية والعسكرية الإسرائيلية التي يمكن أن تدفع إلى مآلات عنيفة مع تواصل عملياتها الاقتحامية والإجرامية في طول الأرض الفلسطينية وعرضها. وتتحمل سياسة شارون وموفاز حتى الآن المسئولية الكبرى في الوصول بالأمور إلى ما وصلت إليه، سواء على صعيد التأزم السياسي في إعاقة التوصل إلى أي حل، أو في ارتفاع أعداد الضحايا على الطرفين. لكن في الوقت نفسه نجحت إسرائيل سياسيا وإعلاميا في التقليل من درجة المسئولية المركزية التي تتحملها، وخفضتها إلى مستوى أدنى وأصبحت تُرى على أنها تتناصف المسئولية مع الفلسطينيين على قدر التساوي. إضافة إلى ذلك نجحت في أنها أدخلت الجميع في لعبة المسوغات والمبررات، وأن العمليات الفلسطينية هي سبب الرد الإسرائيلي بالاجتياحات.

شرك شارون

تورطت حماس ومعها مناصرو خيار "عسكرة الانتفاضة" في الشرك الذي نصبه شارون وموفاز، ووفرت له من دون قصد المبررات والمسوغات للمضي في برنامج سياسي وعسكري استئصالي يقع في القلب منه تعزيز وتعميق الاحتلال للضفة الغربية (الجدار، المستوطنات... إلخ) بالتوازي مع خطة الانسحاب من غزة. الاستمرار في العمليات المتفرقة، وإطلاق الصواريخ، وغيرها لا تحقق فلسطينيا سوى "فش الغل وشفاء الغليل"، لكنه سياسيا ومصلحيا ووطنيا أصبح في هذه الفترة مضرا وغير ذي فائدة، وعلى حماس أن تراجعه بعمق ومسئولية عالية.

هل تبقى مطالبة حماس وبقية الفصائل بالتوقف الآن عن العمليات العسكرية منطقية، في وقت تعلن إسرائيل أنها لن توقف اعتداءاتها حتى لو تم ذلك؟ الجواب: نعم، لسببين: الأول خارجي متعلق بالعلاقة الصراعية مع إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة، والثاني داخلي يتعلق بشبح الحرب الأهلية..

- خارجيا سينزع توقف حماس والفصائل المبرر الأقوى من يد شارون ويكشفه أكثر أمام العالم في لحظة مهمة تتركز فيها الأنظار على فلسطين بعد الانتخابات الرئاسية.

- داخليا، يتم نزع السبب الرئيسي لاحتمال الصدام بين حماس والسلطة. لن يستطيع أبو مازن تحمل ضغط مزدوج من إسرائيل ومن حماس، وسيضطر لمواجهة الجهة الأضعف، أي حماس. سيشعر بأن من حقه كرئيس منتخب تبنى برنامجا واضحا أن يطبق ما أعلنه. وسيتوقف جزء كبير من المسألة على موقف حماس وما إذا كانت ستقبل التعاون مع أبو مازن وتتفادى أي صدام، أم تستأنف عملياتها. إذا قررت الاستمرار فستدفع الأمور نحو الصدام مع السلطة حتى لو ظلت حماس متمسكة بمقولة إنها توجه رصاصها باتجاه الإسرائيليين فقط. هذا النهج الذي مارسته حماس فعلا على الأرض يعبر عن مسئولية وطنية عالية ويحسب لها أنها التزمته في كل المراحل، كما يحسب لها أن تمسكها بحرمة الرصاص الفلسطيني حفظ الفلسطينيين من تطاحن دموي داخلي في أكثر من منعطف. مع ذلك، لا يمكن الاعتداد والتمسك بهذه المقولة من دون أخذ الظروف المختلفة والمتغيرة في الإعتبار. فحماس لا تناضل وحدها في الساحة وما تقوم به ينعكس على الجميع فلا يمكن أن تقول إنها تطبق برنامجها المقاومي ولا تتعرض للسلطة، فهذا تساذج غير مقبول. ثم إنها لا تستطيع فرض رؤيتها وبرنامجها المقاومي على الجميع في وقت حاز فيه البرنامج التفاوضي على شرعية انتخابي.

قوة حماس الشعبية والعسكرية شيء وقوة منطقها السياسي في هذه اللحظة شيء آخر، والقوتان لا تتوازيان حاليا بسبب ضعف المنطق السياسي البارز وهو ما جلبته حماس على نفسها. القوة العسكرية قد تكون خادعة أحيانا، إذ تحاول تعويض الضعف في الجانب السياسي. من الممكن جدا، إن لم يكن أكيدا، أن تتمكن حماس من الإفلات بعملية "انتحارية" هنا، أو إطلاق صواريخ هناك، رغم الحصار الذي تضربه إسرائيل والسلطة. لكن السؤال هو: ماذا ستجني حقا؟ فمن دون أن يكون العمل العسكري منتظما في أجندة سياسية تقود إلى تحقيق أهداف مرحلية ممكنة فإنه يكون إما "شفاء للغليل" أو استعراضا تنافسيا أمام الآخرين لكن غير ذي فائدة على المستوى الوطني.

مسئوليات كل طرف

الخلاصة أن على حماس مسئولية وطنية اليوم وليس غدا بأن تتأمل في برنامجها العسكري، وأن تعلن وقفه مؤقتا لمدة سنة لتسحب البساط من تحت المزاعم الإسرائيلية، وحتى يظهر الجلاد بصورته الحقيقية كما هي ويُعرف من هو المسئول عن الخراب الإقليمي الحالّ بالمنطقة.

لن تخسر حماس شيئا، بل ستربح صدقية أكبر واحتراما أكبر، وبإمكانها أن تستأنف عملها العسكري بعد ذلك وبعد أن يكون قد ثبت أنه ليس المعوق بل إسرائيل هي المعوقة. وفي المقابل يتحمل أبو مازن مسئولية كبيرة في تصويب الضوء والاهتمام إقليميا ودوليا على نقطة القوة الرئيسية في الموقف الفلسطيني إزاء وقف العنف، وهي أن الفلسطينيين وفي مقدمهم حماس على استعداد لوقف متبادل للعنف، وإسرائيل هي التي ترفض. على السلطة الفلسطينية أن تتوجه إلى الرأي العام العالمي وتحشد التأييد وراءها مطالبة بوقف العدوان على الشعب الفلسطيني لا أن تظهر كأنها تستجيب تحت الضغوط لوقف العنف. فالفلسطينيون هم ضحايا العنف وهم على استعداد لإيقافه لكن الطرف الآخر يصر عليه وهنا المعضلة. هذا الخطاب يجب أن يكون خطابا لأبو مازن وموجها إلى الخارج ولا يفترض أن تتسلح به حماس ضد أبو مازن. 

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع