هل الهدنة هي وسيلة أم غاية؟

د. خالد محمد صافي 

إن قيام السلطة الوطنية الفلسطينية بنشر قواتها في شمال قطاع غزة، وتصريحات بشير نافع - قائد القوات الخاصة - "بأن قوات الأمن الفلسطينية تعتزم نزع أسلحة جماعات الناشطّين في إطار خطة لمنع شنّ هجمات على الاحتلال ... وأن التعليمات واضحة، مهمّتنا جمع كلّ السلاح غير الشرعيّ. أيّ سلاحٍ غير سلاح السلطة سنعمل على جمعه. السلاح الذي لا تملكه الشرطة الفلسطينية هو سلاح غير شرعيّ وسنقوم بجمعه أينما كان". وفي المقابل تصريحات محمود الزهار القيادي البارز في حركة حماس بتاريخ 20/1: "لن نلقي سلاحنا مهما كانت الظروف ... إن أي سلاح غير سلاح المقاومة هو غير شرعي، وأن القوة الوحيدة والسلاح الشرعي الوحيد فوق هذه الأرض هو سلاح المقاومة وليس سلاح الذي يفر من المعركة"، إنما ينم عن اختلاف حاد بين الطرفين حول ماهية السلاح الشرعي. وهذا يتطلب التأكيد على عدة نقاط أهمها:

-
إن السلطة الوطنية الفلسطينية قد اكتسبت شرعيتها من اتفاقات أوسلو، واكتسبت قيادتها الشرعية من تاريخها النضالي ومن صناديق الاقتراع، إلا أن المقاومة الفلسطينية منذ الانتفاضة الأولى وحتى الآن قد اكتسبت شرعيتها من مقاومة الاحتلال، ودفاعها عن القضية الفلسطينية. ولكن شرعية السلطة تعتبر شرعية منقوصة في ظل كونها تمارس على أرضٍ محتلة غير كاملة السيادة. وحيث أن الوضع الفلسطيني هو وضع شاذ يشهد حالة من بذور بناء مؤسسات وسلطة ودولة تحتاج إلى حفظ الأمن والنظام العام، ولكنه في نفس الوقت يشهد حالة من المقاومة التي تخوض معركة التحرر الوطني في ظل استمرار الاحتلال. فسلاح السلطة هو سلاح شرعي باعتباره سلاح السلطة الحاكمة في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني، تلك السلطة التي تحتكم إلى اتفاقيات والتزامات أمام المجتمع المحلي والدولي، وفي الوقت نفسه يعد سلاح المقاومة سلاحاً شرعياً أيضاً كونه اكتسب تلك الشرعية من مقاومته لقوات الاحتلال، ومن التضحيات الجسام التي قدمها أفراد المقاومة في معركتهم لإكمال المشروع التحرري. وبالتالي يجب توظيف كلا السلاحين في خدمة المشروع الوطني، فالسلاح الأول يجب أن يوظف في معركة البناء والحفاظ على المؤسسات القائمة وحفظ الأمن الداخلي لتقوية الجبهة الداخلية بينما يجب أن يوظف السلاح الثاني في مقاومة الاحتلال، ورد عدوانه واستباحته للمدن والقرى الفلسطينية. ولذلك يتطلب الموقف والحالة الراهنة الحوار والتنسيق بين قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية وبين قادة الفصائل المقاومة من أجل التوصل لمشروع وطني يتضمن على الأقل الحد الأدنى من خطوط التفاهم والالتقاء حيث تتقاطع فيه معركة البناء مع معركة التحرير. ومن هنا يمكن القول إن قيام السلطة الوطنية الفلسطينية بنشر قواتها في شمال القطاع دون استكمال حوارها واتفاقها على ذلك مع فصائل المقاومة الأخرى، والتصريحات الإعلامية أحادية الجانب من شأنه أن يزيد من حالة التوتر والاحتقان والاحتكاك بين الطرفين الذي ربما يتطور لاحقاً لا سمح الله إلى صدام مسلح وربما حرب أهلية تهدف إليها إسرائيل وتسعى لها جاهدة.

-
إن السلاح غير الشرعي هو السلاح الشخصي الذي يستخدم في ارتكاب جرائم القتل والسطو المسلح، والشجارات العائلية، وهو فقط الذي يجب أن يجمع ويضبط من أجل مواجهة الفلتان الأمني الذي شهده قطاع غزة والضفة لاسيما في الأشهر الأخيرة. إذ من شأن ذلك أن يقلل من الجريمة إلى أدنى حد، ويحقق الأمن الشخصي ويقوي الجبهة الداخلية ويوحد الجهود لمقاومة المحتل.

-
إن قيام السلطة الوطنية الفلسطينية بإعطاء الاحتلال الإسرائيلي هدنة مجانية دون مقابل، ودون ضمانات إسرائيلية ودولية كافية من شأنه تعريض الأمن والمصلحة الفلسطينية للخطر في الوقت الذي تتغنى فيه القيادة الفلسطينية بأن وقف عسكرة الانتفاضة والتهدئة هي من مصلحة الشعب الفلسطيني. فالهدنة يجب أن تكون أولاً: هدنة متبادلة أي أن يوقع عليها الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي. فقد شهدنا في يونيو 2003 هدنة من طرف السلطة والفصائل الوطنية الفلسطينية، بينما بقيت اليد الإسرائيلية موغلة في عدوانها وغيها مما قوض الهدنة في أقل من شهرين. وبالتالي فإن إقدام السلطة الوطنية الفلسطينية بتقديم هدنة على الأسس السابقة هو نوع من الافتقار إلى الحد الأدنى من الرؤية الاستراتيجية والسياسية، أو أنها لا تزال تصر على التخبط وعدم قراءة خطواتها السابقة قراءة صحيحة من أجل الصالح الفلسطيني العام. وثانياً: يجب عدم إعطاء أي هدنة إلا إذا كانت ضمن خطة سياسية واضحة المعالم، وتتمتع بضمانات دولية. وتصريحات الرئيس أبي مازن بأن تلك الخطوة هي ضمن خطوات خارطة الطريق هي تصريحات أحادية الجانب وتتطلب الحصول على ضمانات دولية كافية ومحددة. والكل يعرف أن قادة إسرائيل قد صرحوا قولاً وفعلاً بأن خارطة الطريق قد "ماتت"، وأنها لم تعد قائمة إلا في الخطاب السياسي الرسمي الفلسطيني الذي يبدو أنه لا يزال ينعم بسبات عميق. وما الجدار الفاصل وخطة الانسحاب من جانب واحد من غزة، ووعد بوش إلا تدميراً سياسياً وفعلياً للخارطة التي أصبح لها أكثر من طريق إحداها أدراج أرشيف الحكومة الإسرائيلية. وثالثا:ً إن إعطاء هدنة يجب أن يكون ضمن برنامج سياسي وطني تتفق عليه السلطة الوطنية الفلسطينية والفصائل الفلسطينية بعد جلسات حوارية جادة تأخذ بعين الاعتبار تقييم وضع الانتفاضة، وتحديد الأهداف الاستراتيجية الراهنة ووسائل تحقيقها. وعلى الجميع أن يدرك أن الهدنة هي وسيلة من وسائل النضال الوطني وليست هدفاً وغاية بحد ذاتها. فإذا تم الاتفاق على الوصول إلى هدنة فليتم على أساس تحديد شروطها ومدتها، أما التوجه من قبل السلطة إلى فرض هدنة على الفصائل تحت التهديد واستخدام القوة فإن ذلك لن يخدم المرحلة الراهنة التي تتطلب تكاتف الجهود لا تصادمها وتصارعها.

-
يجب على السلطة الوطنية الفلسطينية والفصائل الوطنية أن تأخذ بعين الاعتبار المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، وتضحياته الجسام وليس مصالحها الحزبية والسياسية الخاصة. ولذلك يجب أن تترفع تلك الجهات عن تصريحاتها أحادية الجانب، ونظرتها الحزبية الضيقة، وتدرك أن جميع فئات الشعب وجميع فصائله تتحمل مسؤولية تحرير الوطن والنهوض به، وأن تنصب جميع الجهود من أجل المشروع الوطني التحرري.

-
يجب على قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية أن تحاور الفصائل الوطنية من منطلق القرار الوطني الفلسطيني المستقل، وأن يكون ذلك نابعاً من مصلحة داخلية فلسطينية وليس استجابة للضغوط الإسرائيلية السياسية والعسكرية. ومن هنا فيجب ضرب تصريحات رعنان غيسين_الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية_ التي تطالب أبا مازن "أقولاً لا أفعالاً في محاربة الإرهاب"، وكذلك تصريحات مسؤولي الاتحاد الأوروبي الموجه للسلطة الفلسطينية بعرض الحائط. فالمفترض أن الرئيس أبو مازن هو رئيس منتخب لتحقيق مصلحة الشعب الفلسطيني وليس الشعب الإسرائيلي وهو ليس موظفاً لدى إسرائيل أو أوروبا أو أمريكا. وأنه لن يكون قائداً لحدياً في خدمة إسرائيل وأمنها. فقرار الهدنة أو عدمها يجب أن يكون نابعاً من قرار ومصلحة فلسطينية عليا. وعلى الجميع أن يدرك أن الجيش الإسرائيلي وأجهزته الاستخبارية قد تلقت ضربات نوعية موجعة في الآونة الأخيرة، وأن الفصائل في حوارها للاتفاق إلى هدنة هي أيضاً في موقع قوة وليس في موقع ضعف حتى في ظل التهديدات الإسرائيلية باجتياح قطاع غزة. ولذلك يجب أن يتوقف الخطاب الرسمي الفلسطيني عن النظر إلى الهدنة على اعتبار أنها مصلحة فلسطينية فقط، بل هي مطلب إسرائيلي أيضاً في ظل فشل الجيش الإسرائيلي في كسر شوكة الانتفاضة، ووقف سقوط الصواريخ على مدنه ومستوطناته. وهذا بالطبع يجب أن يوظف سياسياً بشكل جيد من قبل السلطة الفلسطينية.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع