عذراً يا فخامة الرئيس، أية فلسفة
هذه؟
د. أكرم حجازي
كاتب وأستاذ جامعي متخصص - الأردن-
4/18/2006
لكل فلسفة منطق يبررها إلا فلسفة فخامة الرئيس
الفلسطيني محمود عباس فليس لها ما يبررها وليس فيها ما يمكن فهمه إلا ما
يريد
الرئيس نفسه أن نفهمه. بالنسبة لي فلم تكن لي أية علاقة مباشرة تذكر معه،
فلم أكن
من مرافقيه ولا من أي مرتبة قيادية في المنظمة ولم أحتاجه يوما ليقدم لي
مساعدة
تمكنني من متابعة دراستي أو تعينني على شظف الحياة التي كنت أعيش في تونس
حينما كنت
في الجامعة وأعمل في وكالة الأنباء الفلسطينية محررا صحفيا. وبالتالي
فمعرفتي
بفخامة الرئيس مستقاة من دواوين النقاشات والنميمة التي تجري هنا وهناك
بين
المستويات القيادية المتعددة التي كنا نلتقي بها في الوكالة أو مع
الأصدقاء وغيرهم
ومن مواقفه في وسائل الإعلام.
الجميع يعرف أن الرئيس لما كان يحمل صفة الأخ أبو
مازن كان ينفرد منهمكا منذ سنوات طويلة تعود إلى سبعينات القرن العشرين
في نسج
علاقات سياسية ودبلوماسية مع ما يسمى بقوى اليسار الإسرائيلي التي تؤمن
بالسلام
والمستعدة لقبول حل عادل للقضية الفلسطينية، ولم تكن هذه العلاقات لتسر
فلسطيني،
ولم تكن بالأهمية أو الخطورة التي قد تستوقف الفلسطينيين.
وكان ثمة تيار إسلامي نشط في حركة فتح يعمل في الأرض
المحتلة، وهو الذي وقف خلف ما عرف بظاهرة سرايا الجهاد الإسلامي أواخر
الثمانينات
ويقف على رأس قيادته اثنين من أبرز ضباط حركة فتح هما محمد محمد بحيص
(أبو حسن)
وباسم سلطان التميمي (حمدي أبو جواد)، وقد تمكنت فرق الموساد الإسرائيلي
من
اغتيالهما في قبرص بتاريخ 14/2/1988 وهم برفقة ضابط آخر فذ هو مروان
الكيالي. أما
الأخير فقد ووري جثمانه في بيروت حيث يقيم هناك فيما نقل جثماني أبي حسن
وأبي جواد
إلى عمان حيث شيعتهما جماهير غفيرة بمشاركة عدد من النواب الأردنيين.
وبطبيعة الحال تلا الدفن افتتاح بيت للعزاء أمته
جموع لا تعد ولا تحصى بالنظر إلى ثقل الضباط الثلاثة الكبار وتاريخهما
الحافل
بالقيادة والشجاعة والبطولة والثبات والمبادرة في أشد لحظات المقاومة
ضعفا وتراجعا،
إلا أن فخامة الرئيس امتنع حينها عن الحضور وتقديم العزاء خشية أن يتعرض
للوم سياسي
أو دبلوماسي ويفقد مصداقيته أمام إسرائيل بأنه مهتم بالسلام وخاصة من قوى
اليسار
اليهودي التي ستعتبر تقديمه لواجب العزاء مناصرة لمن هم بالنسبة إليها في
ذلك الوقت
أعتى
الإرهابيين. وعندما حضر إلى تونس حيث كنت أدرس وحيث جعل أحد الأصدقاء
الحميمين
للشهداء الثلاثة بيته موضعا آخر لتقبل العزاء وكنت متواجدا فيه وبعض
المعزين من
بينهم أعضاء في اللجنة المركزية حضر مرافقون على حين غرة ليعلنوا للجميع
أن الأخ
أبو مازن بصدد تقديم العزاء فانتفض هذا الصديق الحميم مزمجرا ومتوعدا
بالويل
والثبور إن هو حاول الاقتراب من المكان. ولم تهدأ الأمور إلا بتدخلات
حثيثة
واعتذارات وتطييب خواطر وتبويس لحى ومسح بالوجوه سمحت بتجاوز الموقف.
وبعد حين سألت
هذا الصديق الحميم عن سبب غضبه فقال لي: بأن الأخ رفض المشاركة في تشييع
جنازة
الشهداء في عمان ورفض تقديم العزاء هناك تحسبا لردود فعل أصدقائه من أن
يصفوه
بالإرهابي وهو الحريص على نظافة صفحته، فلماذا يقدمه هنا؟ ثم أن الشهداء
ليسوا
بحاجة لعزائه ولا لترحماته.
ولما قدمه أحد أعضاء اللجنة المركزية إلى الجمهور في
أحد مهرجانات الاحتفال بالفوز بعيد انتخابه رئيسا بأنه المناضل الكبير
الذي قاتل
وصمد انتفض فخامة الرئيس يدافع عن نفسه جاهرا: " أنا لم أحمل مسدسا في
حياتي". فهل
انطلقت حركة فتح لتفاوض؟ ولماذا التحقت يا فخامة الرئيس بالحركة إن لم
تكن راغبا في
الكفاح المسلح؟ ولماذا صرت أحد قادة منظمة التحرير وحركة فتح؟
بالأمس، وصف الرئيس الفلسطيني عملية تل أبيب بأنها
"
حقيرة " و " تضر بمصالح الشعب الفلسطيني ". ولو أكتفى الرئيس بالأخيرة
التي اعتدنا
عليها لقلنا هذا من حقه في معطيات الظروف الراهنة وموقعه السلطوي وضرورات
البروتوكول والتفلت من الملاحقات الإعلامية والسياسية، ولكن أن يصفها
بالحقيرة فهو
ما لم يكن متوقعا بقدر ما أثار استهجان حتى بعض الصحفيين ووسائل الإعلام.
فهو
وصف:
•
لم يسبقه إليه
أحد لا فلسطيني ولا عربي،
•
ولم يكن مضطرا له بكل المقاييس،
•
والأسوأ من ذلك أنه يأتي في أعقاب استشهاد أكثر من 25
مواطنا فلسطينيا خلال أسبوع واغتيالات بالجملة،
•
وفي خضم القصف اليومي الجنوني لشمال غزة،
•
وفي ذات اليوم الذي ما تزال فيه نحو 80 آلية إسرائيلية تعيث
فسادا في مدينة نابلس تلاها اقتحامات مماثلة لقلقيلية وجنين وغيرها
واعتقالات وقتل
للأطفال.
•
وفي أوج وأحط سلوكات سياسية تستهدف شعبا على مر
التاريخ.
فيا فخامة الرئيس:
لماذا لم نسمع
منكم وصف لجريمة واحدة من هذه الجرائم وخاصة جريمة نابلس فيما لم تتوانوا
عن وصفكم
لعملية تل أبيب بالحقيرة، وهي التي أريد منها تحذير إسرائيل بوجوب وقف
جرائمها ضد
الشعب الفلسطيني وإسماع أمريكا والعرب بأن الضحايا قادرون بعد على إيلام
إسرائيل إن
لم تكف عن الاستهتار اليومي بحياتنا؟
إن فلسفة الولايات المتحدة وإسرائيل في حل النزاعات
تقوم على التفاوض فقط ولا شيء غير التفاوض. بمعنى القبول بموازين القوى
القائمة
التي تفرض الحل بالقدر الذي تريده أو تسمح به مصالحها، وطبقا لذلك ليس من
مرجعية
لهذه الفلسفة في القوانين الدولية ولا في محكمة العدل الدولية ولا في
شرائع حقوق
الإنسان المتعارف عليها طبيعيا ودوليا وإنسانيا ولا في الحقوق التاريخية
ولا في
أنماط التعايش الإنساني ولا حتى الحق في اختيار المفاوضين ولا في السؤال
عن أجندة
المفاوضات ولا الالتزام بأي وقت للتفاوض. أما الأخ الرئيس أبو مازن فهو
أكثر من
يدرك هذه الفلسفة وهو أكثر من يؤمن بها، ولا ندري إن كان هناك تفسير آخر
ينبغي
علينا معرفته كي نتجنب نقدا نتمنى ألا يكون تجنيا.
يا فخامة الرئيس:
هل لك أن تطلعنا
على محتوى فلسفتك بالضبط حتى لا نتهم بأننا نناصبك العداء؟ فنحن نتساءل
لأننا لا
نجد تفسيرا لحقارة كفاحنا إلا أن يكون الشهداء حقيرين بالقدر الذي تغدو
فيه
تضحياتهم حقيرة، وبالقدر الذي يبدو فيه الكفاح الفلسطيني المسلح حقيرا
منذ اغتصبت
فلسطين وإلى يومنا هذا، وبالقدر الذي تبدو فيه دموع الأم الثكلى بولدها
حقيرة هي
الأخرى لأنها لم ترب ولدها إلا على الحقارة.
يا فخامة الرئيس:
لما تضيف أمريكا
وإسرائيل والغرب الشعب الفلسطيني برمته وليس قيادته فقط
في زاوية الجوع والإهانة
والإذلال والتسول من الدكاكين، فهل يمكن أن نصف مثل هذه
السلوكات بالحقيرة؟ وهل بقي
ما يمكن وصفه بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني بعد أن
تحول كل فرد فيه إلى عبء على
الآخر؟ وماذا عن المرأة اليهودية التي تمنت أن تفيق أمهات
الفلسطينيين من نومهن ولا
يجدن أبناءهن ولم تتمنى أن تجد مثلا جيشها منسحبا من بلاد
المغتصبين؟ أليست هذه
التعابير هي ذاتها أمنيات غولدامئير ورابين وأوصاف مناحيم
بيغن والحاخامات
العنصريون الذين يقدمون الفلسطينيين على أنهم صراصير
وفئران أو حيوانات تمشي على
رجلين؟
يا فخامة الرئيس:
لقد انتخبك ثلثا
الشعب الفلسطيني في الداخل، فمن غير المعقول أن يوافقوك
على ما تقول وأن يكون الثلث
الأخير هو الحقير الذي خرجت منه عملية تل أبيب وأنت تعرف
أنها ليست الأولى ولن تكون
الأخيرة. وتعرف أن إفشال حكومة حماس ستدفع بالحركة والشعب
الفلسطيني إلى ردود فعل
عنيفة جدا كون القوى الكبرى التي لا يهمها أية مصالح
للشعب الفلسطيني هي المسؤولة
عن سقوطها. وتعرف أنه ما من أفق لأية عدالة منذ أوسلو
التي صنعتها وحتى الآن سواء
كان الرئيس هو ياسر عرفات أو أبو مازن وسواء كانت حكومة
قريع أو هنية وسواء كان
البطل الفلسطيني يفاوض أو يقاتل، وتعرف أن الكفاح
الفلسطيني المسلح لم ولن يتوقف،
فهل سيكون الشهداء آنذاك وتضحياتهم حقيرة مثلما هي الآن؟
يا فخامة الرئيس:
أنت من يعلم إن
إسرائيل تفرض ولا تفاوض، وتقتل ولا تُسأل، وتحاصر ولا
تحاصَر، وتأمر فتطاع، ونحن
نتنازل ولا نفاوض، ونُقتَل يوميا ولا نبكي، ونجوع ولا
نشبع، ونُظلم ولا من منتصر،
ونُحاصَر ولا من مغيث، وتنتهك حرماتنا ولا من مدين،
ويُروََع أطفالنا وشيوخنا ولا
من حامي... فإن كان كبيرا عليك أن تحمل مسدسا في حياتك؛
فهل سنكون حقراء إذا دافعنا
عن أنفسنا أو ثأرنا مرة واحدة كلما سقط عشرات الشهداء؟ أم
علينا أن نباهي بأننا لن
نحمل المسدسات بعد ذلك؟
عذرا يا فخامة الرئيس، أية فلسفة هذه؟
|