وقفة مع الذّات الفلسطينية
الاثنين 11 تشرين الأول 2004
بقلم
خالد
منصور
مع
تواصل الهجوم الوحشي البربري على جباليا الشامخة ، وعلى عموم قطاع
غزة
البطل ، ومع تواصل سياسة الخنق والحصار والاجتياحات لكل مناطقنا
الفلسطينية..
ومع
تفاقم الأزمات التي تخلقها هذه السياسة الصهيونية المبرمجة .. وفي ضوء
إدراكنا
بان
معركتنا مع العدو ستطول اكثر فاكثر ، ما دام شارون وبوش وامثالهما من
المجرمين
المتطرفين في سدة الحكم ، وأن هذه المعركة ستأخذ في المستقبل منحنيات
اكثر تعقيدا
وخطورة ، خصوصا مع بدء تنفيذ شارون لخطته المشؤومة الأحادية الجانب …
عندها يصبح
لزاما علينا نحن الفلسطينيين ترتيب بيتنا الداخلي على أسس اكثر صلابة ،
وتنظيف هذا
البيت من كل الادران والطفيليات التي نمت فيه كما ينبت عشب الهالوك في
الزرع ،
لتمتص بشراهة منقطعة النظير كل عوامل قوته واسباب صموده ….. من المؤكد
أن شعبنا
الفلسطيني مازال وسيظل صامدا مقاوما ، يسطر أروع آيات البطولة والتحدي
في مواجهة
الغزاة المجرمين – وهذا ليس بجديد على شعب الجبارين ، الذي ليس أمامه
إلا مواصلة
النضال والصمود – لكن من المؤكد أيضا أن أوضاعنا الداخلية وأحوال
الجماهير وصلت إلى
درجة يرثى لها .. فقر وجوع وبطالة ، اسر شهداء وجرحى ومعتقلين ، وآلاف
العائلات
بدون منازل وبدون مصادر رزق ، بعد أن دمّر المحتلون المزارع والمصانع
والطرقات
..
ولو
توقف الأمر على الضربات القادمة إلينا من عدونا التاريخي ، لكان ذلك
أهون علينا
،
ويمكننا حينذاك التعامل معه على قاعدة التعامل مع عدو ، لكن المحزن حقا
والغير
مفهوم ، أن يستمر داخلنا الفلسطيني بالتآكل ، وتستشري فينا ظواهر خطيرة
، ليس اقلها
اللا عدالة في الإنفاق الحكومي ، والظلم السياسي والاجتماعي الذي يصيب
أوساط واسعة
من
شعبنا ، كأفراد وجماعات ، وتنظيمات ومؤسسات
.
فلم
يعد خافيا على أحد أن هناك قدر غير معقول من الإهدار في المال
العام الفلسطيني ، رغم كل ما يقال عن شح الموارد وعن ضيق الحال الذي
تمر به
الموازنة العامة للسلطة الوطنية ، ولم يعد مقنعا لاحد استمرار الحديث
عن الأزمة
المالية ، في ضوء ما يتلمسه حتى المواطن العادي البسيط ، وما يصل إلى
مسامعه من
أخبار عن شيكات تصرف لفلان وفلان ، وعن مبالغ مالية خيالية تصرف لتغطية
نفقات حفلات
وسفرات لأناس معروفين من ( علية القوم ) ، ولكن ما لا يمكن فهمه أبدا
وما يسبب تفجر
الغضب لدى كل المطلعين الذين كادوا يصبحون الغالبية العظمى من الشعب ،
أن يتم تبرير
عدم
صرف استحقاقات مالية لأمور نضالية ، أو لاحتياجات حيوية لدوائر ووزارات
تقدم
الخدمة المباشرة للجماهير الشعبية ، بالتذرع بوجود الأزمة
.
لقد
كان من الممكن لنا أن نصدق ونقبل بالأمر ، لو انه كان هناك جزء
ولو
يسير من العدالة بالصرف والإنفاق ، أمّا أن يصرف المال لتامين الولاءات
الشخصية
أو
تحت مسميات وطنية باهتة ، في الوقت الذي يمنع فيه عن أمور أخرى اكثر
إلحاحا
…
فان
ذلك يدفعنا للقول وبصوت عال أنّ هناك فساد كبير وسوء أداء مالي …
ويدفعنا
للتحذير بان هذا السلوك سيؤدي حتما إلى تآكل متسارع لما تبقى من ثقة
المواطن بسلطته
الوطنية ، التي من المفترض فيها أن تكون سلطة الشعب كله ، وليست سلطة
تسخر أجزاء
مهمة من الموارد الوطنية ، لخدمة أشخاص وفئات معينة ، ولاهداف بعيدة كل
البعد عن
أهداف التنمية الحقيقية ، ولا تسهم جديا في تعزيز صمود الجماهير على
الأرض في
مواجهة الاحتلال
.
واللا عدالة في الإنفاق تشمل لا عدالة في تخصيص الأموال للوزارات
المختلفة ،، فتظلم وزارات لحساب وزارات وأجهزة أمنية ومدنية أخرى ،
فوزارات
كالتعليم والصحة والحكم المحلي لا تجد من المال ما يغطي ولو اقل القليل
من أنشطتها
الحيوية – فالمدارس والمستشفيات تعاني من اكتظاظ هائل ، وتعاني من نقص
في المعدات
واللوازم ومن نقص في الكادر ومن تدني في رواتب العاملين ، والحكم
المحلي لا يجد في
موازنته من المال ما يلبي طلبات المجالس البلدية والقروية ، من طرق
وإنشاءات وتحسين
المرافق العامة
…
واللاعدالة تشمل أيضا لا عدالة في صرف المخصصات داخل الدوائر
والوزارات نفسها ، فتهدر أموال طائلة بلا رقيب ولا حسيب ، على كماليات
واحتياجات
شخصية للمراتب العليا في الوزارات ، كبدل السفر والمهمات الخارجية ،
والنثريات
وفواتير الجوالات الشخصية وفواتير هواتف المنازل ، وعلى السيارات
ومصاريف البنزين ،
بالإضافة إلى الحفلات الشخصية وحتى تلك التي تقام في البيوت وتصرف من
المال العام
تحت
بند الضيافة ( في ظل غياب قانون المساءلة – أنّى لك هذا
- )…
واللا عدالة تحصل في المساعدات الشخصية والمكرمات ، التي يحصل عليها
في
الغالب أناس ليسوا بحاجة للمساعدة ، والمصيبة هي في أن أسماء هؤلاء
تتكرر في كل
القوائم التي ترفع ، حتى أن البعض منهم امتهن التكسب والنصب بالمواظبة
على تقديم
طلبات المساعدة لنفسه ولأشخاص آخرين من دائرته السكنية والعائلية
ومحاسيبه ، ليحصل
منهم فيما بعد على نسب مئوية من تلك المساعدات لقاء كونه من يسهل
وصولها إليهم
….
واللا عدالة الصارخة تكمن أيضا في أن يصرف لهذا التنظيم مخصصاته
المالية ، وتمنع هذه المخصصات عن تنظيم آخر ، ويدفع لهذا التنظيم أجور
مقرات ورواتب
متفرغين ، وتمنع هذه المخصصات عن تنظيم آخر ( في ظل غياب أو تغييب
قانون وطني
لتمويل الأحزاب ) .. تعيينات وترقيات لم تتوقف ، بينما يقال للآخرين
هناك قرار بوقف
التعيينات والترقيات ( في ظل غياب قانون الخدمة المدنية وقانون التقاعد
).. كتب
مالية موقعة حسب الأصول ، ومكتوب عليها للصرف الفوري يتم توقيفها ،
وكتب أخرى
بمبالغ هائلة تصرف في نفس الحين واللحظة
.
اللا عدالة جريمة والمجرم فيها ليس هو فقط من يمارسها ولكنه أيضا من
يمتلك بحكم القانون صلاحية المساءلة فيها والرقابة لمنعها ، فيسكت عنها
ويغمض أعينه
كي
لا يراها ، وهو في هذه الحالة شريك كامل فيها ( ومن المؤكد انه لولا
استفادته
منها لما تغاضى عنها ) .. وحين تتلازم اللا عدالة مع تعدد المرجعيات
وتعدد من
يمتلكون الصلاحية بإصدار قرارات الصرف ، تصبح الجريمة كارثة اكبر
ومأساة حقيقية ،
ويهتز عندها شعور المواطن بمواطنته
.
إننا نواجه تحديات كبيرة ، وتنتظرنا على الطريق مخاطر ومؤامرات كثيرة
،
تهدد مصيرنا وتنذر بتصفية قضيتنا ، وتحويلها من قضية تقرير مصير وتحرر
وطني لشعب
اغتصبت كامل حقوقه ، إلى قضية مجموعات سكانية متناثرة هنا وهناك ، تعيش
في كانتونات
ومعازل وسجون ، تطالب بتحسين أوضاعها المعيشية .. ولكي نستطيع تجاوز كل
ذلك ،
وقيادة سفينتنا المبحرة في بحر يشتد هيجانه وتتعالى أمواجه ، ونوصلها
إلى بر الأمان
حيث
الحرية والاستقلال .. لابد لنا من وقفة شجاعة مع ذاتنا الفلسطينية ..
لابد لكل
الوطنيين المخلصين – من كل الاتجاهات – في السلطة الوطنية وحزبها ، في
التنظيمات
المناضلة ،في المؤسسات ، وفي كل القوى الشعبية الحية في المجتمع ، من
تنسيق جهودها
وحشد طاقاتها ، وخوض نضال لا هوادة أو تراجع فيه ، من اجل إصلاح
أوضاعنا الداخلية ،
وإحداث التغيير الديمقراطي الشامل في مجمل بنية نظامنا السياسي
الفلسطيني
.
خالد منصور
كاتب
فلسطيني من
جنين ، عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني
|