"تسميم" عرفات.. أسئلة حائرة *

نور الدين العويديدي

06/11/2004

الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، صاحب المقولة الشهيرة "يا جبل ما يهزك ريح" بات في مهب إعصار عنيف، بعد أن تواترت أنباء أن الرجل في حال موت سريري، وأن قرار إنهاء حياته الاصطناعية بات بيد زوجته سها عرفات وعائلته، بعد أن دخل في غيبوبة من الدرجة الرابعة والأخيرة، وذلك يعني غياب المريض تماما عن الوعي، وتوقف أي رد فعل لا إرادي، وغياب نشاط الدماغ، حيث لا تتفاعل الحدقة مع الضوء، ولا يغلق الجفنين لدى لمس قرنية العين، إضافة إلى توقف التنفس اللاإرادي.

وفي تقرير لها الجمعة 5-11-2004 تطرح وكالة "قدس برس" للأنباء عددا من الأسئلة، وتقول: "هل هزّ ريح سم زعاف مجهول الهوية جبل عرفات الراسخ الثابت؟ وهل جهاز الموساد الإسرائيلي يقف خلف ذلك؟ ولماذا تأخر نقل عرفات للعلاج في فرنسا، حتى أحكم السم الزعاف قبضته على جسده النحيل الذي أضعفته سنو الكفاح الطويلة المتعرجة، والحصار الطويل في المقاطعة مهدمة الأركان؟".

ولماذا لم يرافق الدكتور أشرف الكردي، الطبيب الخاص لعرفات، الرجل إلى المستشفى العسكري الفرنسي؟ ولماذا لم يُمكن هذا الطبيب الذي خبر صحة الرئيس المسن من المعلومات، التي قد تمكنه من المساعدة في علاج عرفات؟.

وإذا صحت مزاعم التسميم، فهل يكون الرئيس الرمز قد سمم بواسطة أحد صغار مرافقيه أم أحد كبارهم؟ وهل كان القرار الإسرائيلي بتسميم عرفات إسرائيليا محليا محضا؟ أم أن العم سام قد شارك في القرار، جريا على عادة التحالف الإستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي؟.

تحقيقات مكثفة

وفكرة التسمم لم تعد مجرد فكرة هائمة طائشة من نسج خيال مريض، مصاب بلوثة نظرية المؤامرة كما يقال، فلم يعد سرا أن أجهزة السلطة الفلسطينية قد أجرت تحقيقات مكثفة بشأن احتمال تورط مقربين من عرفات في تسميم طعامه أو شرابه. كما أن الأطباء الفرنسيين أكدوا أن عرفات غير مصاب بالسرطان، وأن نقص الصفائح الدموية قد يكون ناجما عن عملية تسمم، تعطي آثارها خلال وقت طويل.

دور الموساد

أما السؤال بشأن دور جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (الموساد) في عملية التسمم، فجوابه أنه قد بات من المعلوم بل البديهي أن عرفات الذي قبع لفترة طويلة في المقاطعة المهدمة في مدينة رام الله، لم يكن بوسع أي جهاز استخبارات، غير الموساد، الوصول إليه، وهو المحاصر في قبضة اليد الموسادية، بين جدران المقاطعة المحاصرة بغابة من السلاح والعيون والجواسيس الإسرائيليين من كل مكان.

وأما بالنسبة للقرار الإسرائيلي بشأن تصفية عرفات، فإن الكاتب الصحفي الإسرائيلي أوري دان قد نشر في صحيفة "معاريف" الإسرائيلية يوم الخميس 4-11-2004 أن كتب التاريخ ستذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي إريل شارون كمن صفى عرفات، قائلا إنه يذكر جيدا "الجلسات التي حضرتها، التي كان عقدها شارون كوزير للدفاع في العام 1982، حين كان يكرِّر السؤال لقادة الموساد متى أخيراً سيقومون بتنفيذ أمر قائدهم، رئيس الوزراء مناحيم بيجن، فيصفّوا عرفات؟".

وعلق دان على ذلك بالقول: "أما الموساد؛ فقد ظهر في حينه بكامل قصوره وعجزه" عن قتل عرفات وتصفيته، وربما تكون الفرصة قد واتته أخيرا ليثبت هذا الجهاز لقادته كفاءته في تصفية الزعيم المختار، مثلما واتت الفرصة شارون لري غليله من غريمه التاريخي ياسر عرفات، الذي عاش شارون محرضا عليه، وحين واتته الفرصة لم يرحمه.

وإذا كان الواقع لا يفهم جيدا إلا بالنظر مليا في عيون الماضي، وإذا كانت التصريحات السابقة قد تكشف جليا الأفعال اللاحقة، فإن الكاتب الإسرائيلي دان يذكر بأنه "في الرابع عشر من إبريل 2004 أبلغ شارون - كما كشف هو نفسه- (الرئيس الأمريكي جورج) بوش بأنه لم يعد يرى نفسه ملتزماً بما وعد به بوش في لقائهما الأول في مارس 2001، بعدم المساس بعرفات، فردّ عليه الرئيس بوش؛ بأنه لعله من الأفضل ترك مصير عرفات بيد القوة العليا، بمعنى الرب تعالى اسمه. فقال له شارون؛ إنه لعله أحياناً تكون هناك حاجة إلى مساعدة الرب تعالى اسمه!".

ويخلص الكاتب الإسرائيلي من ذلك إلى التساؤل "ما العجب، والفلسطينيون ينثرون نظرية المؤامرة، في أنّ إسرائيل وكأنها سممت عرفات، والطباخين الذين عملوا في مطبخه في المقاطعة خضعوا لتحقيقات قاسية في هذا الموضوع؟".

شفرة تستعصي على الحل

وإذن، فإن إعصار السم الزعاف الذي يهز اليوم جبل عرفات هزا عنيفا هو على الأرجح سم إسرائيلي. وليس غريبا أن يعجز الأطباء الفرنسيون عن حل شفرة هذا السم، ليتمكنوا من السيطرة عليه، فقد سبق للموساد أن سممت خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في عمان، قبل سنوات، ولم يكن بالإمكان علاجه إلا على يد الإسرائيليين أنفسهم، الذي كشفوا شفرة السم، فأمكن علاجه منه، بعد أن احتجز الفلسطينيون جواسيسهم الذين حاولوا قتل الرجل غيلة. أما اليوم فلا يوجد جواسيس إسرائيليون محتجزون حتى يمكن إجبار دولة الاحتلال على حل الشفرة، وإنقاذ الزعيم عرفات.

الدور الأمريكي

وأما بشأن السؤال عن الدور الأمريكي في العملية، فلا يبدو أن ثمة شيئا يمكن أن يؤكد وجود شيء. لكن حديث شارون مع بوش عن ضرورة "مساعدة الرب تعالى اسمه" في قتل عرفات، يكشف بجلاء أن أمر قتل الزعيم الفلسطيني لم يكن غائبا يوما عن النقاشات "الإستراتيجية" الإسرائيلية الأمريكية.

كما أن قرارا من حجم اغتيال عرفات لا يمكن أن يمر بسهولة، فله آثار كبيرة على المنطقة بأسرها، وفي المقام الأول دولة الاحتلال، ولا يمكن ألا يتم مناقشة الأمر لخطورته مع الحامي الأول لتل أبيب: الولايات المتحدة الأمريكية.

المسئول المباشر

وتبقى التساؤلات مطروحة بشأن المسؤول المباشر عن عملية تسميم الرئيس عرفات، وعن حجمه، وهل هو من الصغار أم من كبار اللاعبين، من المحيطين بالرئيس "الميت سريريا" اليوم؟ كما يظل السؤال أيضا مطروحا بقوة بشأن دواعي استبعاد الدكتور أشرف الكردي عن مرافقة الرئيس عرفات إلى فرنسا، وحرمانه من أي معلومة دقيقة عن الحال التي آل إليها الرئيس المريض، ولا يعرف هل ذلك راجع إلى العقلية الراسخة في التشكيك في مهارة الأطباء والكفاءات العربية عامة؟ أم أن الأمر أبعد من ذلك بكثير؟

قرار وقف "الحياة الاصطناعية"

غير أن ثمة سؤالا آخر أشد خطرا، فبعد أن صار قرار وقف "الحياة الاصطناعية" مرهونا بقرار زوجة الرئيس عرفات، التي تركته منذ سنين طويلة، محاصرا في المقاطعة مهدمة الأركان، مفضلة أجواء باريس ونعومة العيش فيها على شظف العيش معه، فهل نشهد قتلا ثانيا للرئيس عرفات، بعد قتله الأول عبر التسميم؟

لا أحد يملك جوابا شافيا عن هذه الأسئلة الحائرة، فكثيرة هي الأسئلة التي تموت الأجوبة عنها أو تخنق خنقا، كلما كانت الرهانات كبيرة، والأجوبة خطيرة مزعجة.  


* نقلا عن وكالة قدس برس

الى صفحة بدون تعليق

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع