واقع السلطة و فتح ... المأزق و المخرج

 

تمهيد :

حفلت الساحة الفلسطينية منذ انطلاق التجربة النضالية المعاصرة بالعديد من مواضع الاتفاق و الافتراق و التوافقات و الانشقاقات ، حيث انعكس الواقع العربي و الدولي بتياراته و ثقافاته و ولاءاته على النسيج الفلسطيني السياسي و الثقافي ، و تراوحت توجّهات العمل النضالي الفلسطيني خلال عقود عديدة بين اليسار و القومية و العلمانية ، و قد عبّر هذا الواقع عن نفسه عبر لافتات حزبية و حركية مثّلت هذا الطيف الواسع من الأفكار و الانتماءات و الولاءات الإقليمية و الدولية ، حيث إن لكلّ فصيل خصوصيته الفكرية و الظرفية التي نشأ في إطارها .

 

و لم تخرج حركة فتح عن السياقات العامة التي حكمت نشأة مختلف الفصائل الفلسطينية ، بيد أن "فتح" حاولت استيعاب التنوع الفكري و الثقافي في المجتمع الفلسطيني داخل إطار تنظيمي واحد ، يشكّل الإطار الجامع لحركة تحرير وطني ، تضم بين صفوفها خليطاً فكرياً ، في إطار مرجعية فكرية هلامية ، و هيكل تنظيمي فضفاض ، و شروط استيعاب ميسّرة .

 

و قد شكّلت معركة الكرامة عام 1968م ، علامة فارقة في تاريخ م.ت.ف و "فتح" ، حيث أدّت إلى بروز فتح شعبياً و توسعها تنظيمياً ، و أعطى شرعية لخيار الكفاح المسلح الذي أعلنته فتح ، فآذنت بمرحلة هيمنت حركة فتح و قيادتها الحالية على مقاليد القرار الفلسطيني لعقود طويلة و لا تزال ، كما انعكس الانفتاح غير المحسوب بعد الكرامة على نسيج فتح الفكري و التنظيمي و هيّأ الظروف المناسبة لإحداث اختراقات على الصعيد الأمني و السياسي لمصلحة العديد من أجهزة الأمن العربية و المعادية .

 

رغم أن انطلاقة الحركة مطلع عام 1965م قامت على هدف التحرير الشامل لفلسطين من البحر إلى النهر ، و تعبيراً عن هذا التراجع عن برنامج الانطلاقة طرحت الجبهة الديمقراطية بإيعاز من أطراف في قيادة فتح ما سمّي ببرنامج النقاط العشر (برنامج المرحلية) في اجتماع المجلس الوطني لعام 1974م ، و الذي تم اعتماده برنامجاً لـ م.ت.ف ، بما فتح الباب واسعاً و بصورة رسمية لبرنامج التسوية الذي سارت فيه قيادة فتح و المنظم ة.

 

و قد ازدادت وتيرة التدهور على مختلف الأصعدة إثر خروج قيادة م.ت.ف و مقاتليها من بيروت إلى منافي بعيدة عن فلسطين، ثم خرج عرفات من طرابلس إلى القاهرة تعبيراً عن مرحلة جديدة ، قوامها السير على خطى كامب ديفيد و السادات ، و بدلاً من استثمار الانتفاضة الكبرى (1987 - 1993) باتجاه العودة إلى خيار المقاومة و التمسك بالحقوق سار عرفات بحركة فتح إلى طريق أوسلو الذي أسس لتشكيل السلطة الفلسطينية على أجزاء من الضفة و القطاع بناء على اتفاق غزة و أريحا أولاً (أيلول 1993م) .

 

أضحت المنظمة و الحركة التي استندت في بنائها و برنامجها و انطلاقتها إلى التحرير الشامل جزءاً من صفقة أمنية سياسية ، ترتكز إلى الاعتراف بالعدو ، و تتنازل عن 78 % على الأقل من فلسطين التاريخية ، و غدت مؤسسات (فتح) مشروع دولة لها سيادة على الشعب دون الأرض ، فكان خيار أوسلو بالنسبة لهؤلاء القشة التي تمسّكوا بها ليحافظوا على نفوذهم و دورهم على الساحة الفلسطينية ، و انتقال ثقل المقاومة إلى الأرض الفلسطينية ، و خشية من امتداد الصحوة الإسلامية في فلسطين و تزايد التأييد لحركات المقاومة الإسلامية و في المقدمة منها حركة "حماس" .

 

و لم تتوانَ أجهزة السلطة عن التنسيق الأمني مع العدو ، و ممارسة القمع و الإرهاب لحماية الأمن الصهيوني ، و شنت حرباً لا هوادة فيها ضد المجاهدين و المقاومين ، مستعينة بروح المليشيا و عصبيتها المغلفة بخداع و وهم المشروع الوطني و الدولة الفلسطينية ، و استمرت السلطة في خيارها غير عابئة بحقائق الأشياء و مسلّمات الصراع ، حتى اصطدمت بجدار الحقيقة في كامب ديفيد في تموز 2000م ، و جاء دور الشعب الفلسطيني بوعيه الغريزي الجمعي ، لينتفض مجدّداً فيقلب الطاولة على الاحتلال و المراهنين على التسوية مع العدو الصهيوني الغاشم .

 

خلفيات الأزمة القائمة :

اتخذ رئيس الوزراء الصهيوني "شارون" لنفسه نهجاً خاصاً ، إزاء تعاطيه مع السلطة الفلسطينية ، منذ توليه مقاليد السلطة في الكيان الصهيوني ، قائم على اعتبار السلطة فاسدة لا بد من تطهيرها و إصلاحها ، و قيادتها فاشلة لا بد من تغييرها ، و متورطة في (الإرهاب) و من ثم لا بد من عزلها و اعتبارها غير ذات صلة بالواقع السياسي ، و اعتبر أن تحقيق هذه الأمور شرط لازم لعودة مسار التسوية .

 

و ما لبثت الإدارة الأمريكية أن تبنّت هذا الموقف ، و من ثم فرضت حصاراً دبلوماسياً على رئيس السلطة السيد ياسر عرفات و طالبت بتجريده من ملفّي الأمن و المال ، و ذلك عبر تعيين وزيرٍ للداخلية و آخر للمالية ، و كان لها ذلك حيث تم تعيين اللواء عبد الرزاق اليحيى وزيراً للداخلية و سلام فياض للمالية ، بيد أن هذا الإجراء لم يكن كافياً لإضعاف رئيس السلطة فطالبت الإدارة الأمريكية بتنفيذ مطلب شارون بتعيين رئيس وزراء فلسطيني واسع الصلاحيات ، و ضغطت بشدة على عرفات و أطراف عربية لتحقيق هذا الإملاء الجديد ، فوضعت أمام عرفات خيارين لا ثالث لهما فاضطر إلى قبول ترشيح أبي مازن لرئاسة الوزراء كأحد الخيارات ، و ذلك استباقاً للتداعيات المحتملة لاحتلال العراق ، فقام بدفع الثمن مقدّماً قبل العدوان الأنجلو أمريكي (فبراير 2003م) غير أن محمود عباس ظلّ يماطل في تشكيل وزارته إلى أن اتضحت صورة المشهد العراقي بسقوط صدام و احتلال العراق لتبدأ حقبة جديدة في المشهد السياسي الفلسطيني .

 

حقبة تتسم بالتنازع في الصلاحيات بين رئيس للسلطة اعتاد منذ عقود طويلة الهيمنة على القرار الفلسطيني ، إذ يمسِك بمقاليد مختلف مؤسسات السلطة و م.ت.ف ، و تاريخه زاخر بالقدرة على تخطي الأزمات و فن البقاء ، و لا يزال يحظى بقدرٍ من المشروعية الشعبية و الرمزية التاريخية الفلسطينية ، و المشروعية الرسمية العربية و الدولية ، في مقابل رئيس للوزراء من الناحية القانونية مساءل أمام رئيس السلطة و م.ت.ف و حركة فتح ، غير أنه مفروض على الجميع بقرارٍ أمريكي صهيوني و مباركة عربية ، لا يستطيع رئيس السلطة إقالته ، حيث إنه خيار الإدارة الأمريكية و ربيبتها "إسرائيل" كما ارتبط به تنفيذ خارطة الطريق ، حيث رفضت إدارة بوش طرح مشروعها إلا بعد إقرار المؤسسات الفلسطينية الرسمية لحكومة أبي مازن ، و يرفض شارون المضي في خارطة الطريق إذا استقال أبو مازن .

 

لقد بدأ الصراع بين الرجلين منذ اللحظة الأولى التي اضطر فيها عرفات للرضوخ للضغوط الأمريكية ، حيث بدأت معركة الصلاحيات بينهما ، إذ يسعى عرفات إلى تقليصها و رئيس وزرائه إلى توسيعها ، و كان الفيصل هو قرار اللجنة المركزية لـ "فتح" بإلزام أبي مازن بمجموعة من القضايا أهمها :

 

1-      أن وزارته هي وزارة فتح ، و من ثمّ لا بد من إقرارها في اللجنة المركزية لفتح .

2-      وزارة الداخلية لا يتولاها سوى عضو في اللجنة المركزية لفتح .

3-      تشكيل لجنة أمنية عليا تشرف على الأجهزة الأمنية برئاسة عرفات .

4-      تشكيل لجنة عليا للمفاوضات تتولى إدارة هذا الملف .

 

هذه القرارات التي اضطر أبو مازن لقبولها كانت مجرد البداية في مسلسلٍ لا متناهي من التنازع ، سواء المعلن أم الخفي ، فكان تعيين محمد دحلان وزيراً للداخلية اختباراً أولياً لأوراق الرجلين في لعبة الشد و الجذب المتبادل ، و اضطر عرفات إلى قبول دحلان بعد ضغوط أمريكية صهيونية و وساطة مصرية ، و لكن بمسمى وزير دولة لشؤون الأمن و ذلك كمخرج و تحايل على قرار اللجنة المركزية ، بيد أن موافقة عرفات هذه لم تمرّ دون مكاسب اضطر أبو مازن لدفعها له .

 

و توالت الأزمات لتبلغ ذروتها في الاجتماع الأخير للجنة المركزية لـ "فتح" مطلع يوليو 2003م ، حيث تعرّض أبو مازن إلى انتقادات شديدة من أعضاء اللجنة على أسلوب تعاطيه السياسي و الأمني مع حكومة شارون ، و اتهم بأنه يتصرّف كسياسي غرّ مبتدئ ، بل إن عرفات وصفه بأنه خان قضية و مصالح شعبه ، خاصة في ضوء خطابه الكارثي في قمة العقبة مع بوش و شارون بتاريخ 3/6/2003م ، و في خطوة احتجاجية قدّم أبو مازن استقالته من اللجنة المركزية لفتح ، بدعوى افتقاره إلى دعم حزب السلطة (فتح) لتنفيذ برنامجه السياسي المعتمد من المجلس التشريعي ، و هي الخطوة التي اعتبرها المراقبون أسلوباً للضغط على عرفات و أعضاء اللجنة المركزية ، و حدثت إثرها قطيعة بين الرجلين ، فتم تشكيل لجنة ثلاثية تضم أبو علاء قريع ، و صائب عريقات ، و نبيل عمرو ، لتقريب وجهات النظر ثم توجّت هذه الجهود بوصول مدير المخابرات العامة المصرية لحل الأزمة قبل توجّه عباس إلى الولايات المتحدة الأمريكية للاجتماع بالرئيس الأمريكي بوش ، و قد تم بالفعل تهدئة الأزمة مؤقتاً في انتظار انفجارٍ جديد في المستقبل المنظور .

 

في هذه الأثناء فإن حالة من الاستقطاب الحاد تجري داخل مؤسسات السلطة و حركة فتح بين مؤيّد لأحد طرفي النزاع ، حيث لا يزال عرفات مشرفاً على الأجهزة الأمنية التالية (المخابرات العامة ، قوات 17 ، الاستخبارات العسكرية ، البحرية ، الأمن الخاص) أما أبو مازن و دحلان فيشرفون على (جهاز الأمن الوقائي ، و الشرطة ، و الدفاع المدني) ، و يجدون صعوبات في استقطاب الأمن الوقائي في الضفة الغربية في ظلّ نجاح عرفات في استقطاب جبريل الرجوب ضد زميله و غريمه محمد دحلان الذي يجد له الكثير من المنافسين على رأس الأجهزة الأمنية الفلسطينية .

 

أما على صعيد المؤسسات فإن عرفات لا يزال يشرِف على التنظيم بصورة مباشرة أو من خلال المفوّض العام لتنظيم هاني الحسن ، كما يهيمن على القرار داخل اللجنة المركزية لحركة فتح ، و اللجنتين الحركيتين في الضفة (حسين الشيخ) و غزة (أحمد حلس) ، في حين أن طاقمه الوزاري و السياسي يتضمّن عريقات و عبد ربه و أحمد عبد الرحمن و غيرهم ، أما طاقم أبي مازن فيضم دحلان و نبيل عمرو مؤخراً ، و الطيب عبد الرحيم و حسن عصفور ، غير أن موازين القوى هذه رغم ميلها بصورة واضحة إلى رئيس السلطة عرفات فإنها غير مستقرة و في حالة حراك دائم و خاصة أن البعض اعتاد تغيير ولاءاته حسب التيار المهيمن كما حصل مع محمد رشيد ، كما أن للعوامل الخارجية دور مؤثر في ترجيح كفة على أخرى.

 

أبعاد الصراع القائم :

بلا شك فإن مصالح الفريقين و توزيع الصلاحيات أو تقاسمها يلعب دوراً أساسياً في الصراع المحتدم ، و لكن ذلك لا ينفي وجود عوامل جوهرية أخرى تشكّل معالم المأزق الذي تعيشه السلطة تتنوّع هذه العوامل بدءاً من العوامل السياسية و البنيوية و التنظيمية انتهاء بالعوامل الشخصية الذاتية .

 

فبرغم اتفاق الطرفين على تبنّي برنامج التسوية و التمسك به ، فإن خلافات في تفاصيل التعاطي مع هذا البرنامج قائمة بينهما ، و هي قضايا تكتيكية في إطار برنامج التسوية ، حيث يواجه هذا البرنامج مأزقاً حقيقياً ، و رغم محاولة بعثه عبر خارطة الطريق فإنه لا يتوقّع أن يبارح مكانه في ظلّ حكومة شارون و إغلاقها لأي أفق سياسي ، و في ضوء الدعم الأمريكي لسياساته .

 

هذا التراجع الكبير على صعيد التسوية بلا شك ينعكس على معسكر التسوية بصورة سلبية و يظهر تناقضاته الداخلية إلى السطح ، خاصة و أن هذا المعسكر قابل للاختراق و الاستقطاب من أطراف خارجية إقليمية و دولية ، حيث إن الأزمة الحالية القائمة نتيجة مباشرة للتدخل الصهيوني و الأمريكي لفرض منصب رئيس للوزراء و تحديداً محمود عباس ، و هذه القابلية للاختراق سواء نتيجة لعوامل تاريخية ، حيث تضم حركة فتح خليطاً لأشتات فكرية و جهوية ، ناجمة عن أساليب الانتقاء العشوائي المفتوح ، أم لاختلاط الولاءات لتشمل دولاً عربية و أجنبية ، إضافة إلى ضعف التجانس الفكري ، في ظلّ افتقار فتح إلى أيدلوجية محددة ، تحيل من فتح و السلطة إطاراً يعجّ بالتناقضات التي أبرزتها تطوّرات الوضع الفلسطيني في ظلّ الانتفاضة ، في ظلّ خشية البعض على مصالحه و طمع طرف آخر في استرضاء شارون و أمريكا .

 

و قد ازدادت الأمور سوءاً في ظلّ السلطة حيث تعزّز النفوذ الأمريكي و الصهيوني في مؤسسات السلطة و تعمّقت الاختراقات الأمنية و السياسية ، و لم يعد تدخّل هذه الأطراف المعادية أمراً خافياً ، و غدت مؤسسات فتح و السلطة لديها القابلية للتعاطي الإيجابي مع خيارات العدو التي تملى عليها ، و ما تعيين أبي مازن و دحلان و فياض و غيرهم سوى أنموذج صارخ لقابلية الاستجابة لهذه الإملاءات و لربما كانت بعض مظاهر الصراع القائم محاولة ما تبقّى من التيار الوطني داخل فتح لمقاومة أجندة شارون المفروضة على قيادة السلطة .

 

و يحاول بعض الشرفاء في فتح المحافظة على الطابع الوطني للحركة ، و ذلك في مواجهة الذين لا يزالون مستعدّين للقيام بالدور الوظيفي الأمني للسلطة ، فالسلطة في وجودها و بنائها و دورها ترتكز إلى وظيفتها في تحقيق الأمن للكيان الصهيوني عبر ضرب المقاومة و برنامجها ، و من هنا جاء اختيار و اعتماد شارون و بوش لأبي مازن لثقتهم في عقيدته السياسية المعادية للمقاومة و الانتفاضة ، و هو الهدف الذي سعى العدو عبر الضغط على السلطة للعودة إليه ، فلما فشل أو رفض عرفات توفير البضاعة المطلوبة تقرّر شطبه و استبداله بمن يبدي الاستعداد لذلك ، و من ثم فإن الصراع القائم في جزء منه يقوم على طبيعة و جوهر حركة فتح ، حيث يسعى أبو مازن لإنهاء دور فتح المقاوم الوطني و دمجها بصورة تامة و نهائية في السلطة بأدواتها السلمية و التفاوضية ، بينما يرى آخرون أن على فتح المزاوجة بين دورها التفاوضي السلطوي و المقاوم في آن واحد و إلا فإن الحركة ستخسر جماهيرها و دورها لمصلحة حركات المقاومة ، هذا الاتجاه تجسّده بعض التشكيلات العسكرية لفتح مثل كتائب شهداء الأقصى و غيرها ، مدعومة من تيار وطني داخل فتح .

 

هذا الواقع ناجم عن خطأ استراتيجي في رؤية قيادة فتح ، حين اعتقدت بإمكانية الجمع بين الدور الوطني النضالي و دور السلطة حيث إن لكلا الدورين طبيعة و أدوات مختلفة ، فنشأ عن هذا الواقع حالة من الجمع بين نقيضين ، و تشكّلت حالة من العلاقة الجدلية غير المتسقة ، فمن جهة فإن فتح هي حزب السلطة و من ثم فهي مستفيدة من امتيازات الحزب الحاكم ، بما يعنيه ذلك من نفوذ في الشارع عبر التحكم في الأمن و المال ، و حماية لمصالحها كحركة و مصالح كوادرها فإنها معنية بوجود و استمرار السلطة و برنامجها (برنامج التسوية) و من ثم تختلط المصالح العامة بالحزبية و بالمصالح الخاصة ، و في المقابل فإن فتح معنية باستمرار دورها الوطني و طبيعتها الجماهيرية ، و من ثم لا بد أن تكون قريبة من نبض الشارع و ألا تدفع ثمن سياسات و ممارسات السلطة التي تمثّل فتح عمودها الفقري و حزبها الرئيسي ، بما يوقعها في حالة من التناقض مع الذات و البرنامج (التسوية) ، و من ثم حاولت قيادة التنظيم في كثير من الأحيان الإبقاء على حدٍّ ما من التباين مع مواقف السلطة رغم أنها سلطة الحزب في المقام الأول .

 

و في الوقت نفسه فإن السلطة معنية بوجود حزب يدعمها و يردفها بالكوادر و يحميها عند المنعطفات الحاسمة ، و ربما استخدمته أداة باطشة ضد مناوئيها ، أو أداة تحشيد للجماهير حول خيارات السلطة لذلك فإن السلطة بحاجة إلى ضبط هذا الجسم الفتحاوي لضمان بقائه أداة طيّعة لتنفيذ برنامجها التسووي فتقع في مأزق و حرج كبير حين يخرج هذا الجسم أو بعضه عن نطاق السيطرة .

 

هذه العلاقة غير السوية بين تنظيم انطلق لتحرير الأرض من البحر إلى النهر ، و سلطة أصل وجودها هو دورها ، في إطار معادلة و التزام لجهات إقليمية و دولية ، و على رأسها أمن الاحتلال الذي انطلقت فتح لاجتثاثه ، يدفع في كثير من الأحيان رئيس فتح و السلطة إلى استنكار العمليات العسكرية التي يقوم بها أبناء فتح ، و قد يصفها بالإرهاب ، و في المقابل يدعو عشرات المرات لوقف إطلاق النار ، و يأتي رفض الاستجابة من عناصر جهازه العسكري قبل غيرهم ، و هذا ناجم عن التناقض في البرنامج و عدم اتساق التوجيهات ، و تعدّد المرجعيات الفكرية والتنظيمية والتمويلية.

 

نمط العلاقة هذا ينعكس بصورة مباشرة على وحدة السلطة و تماسك فتح ، فقد كثرت الأزمات على صعيد القيادة ، و تعدّدت حوادث الاحتكاك و الصراع الميداني ، حيث وصلت في كثير من الأحيان إلى الاحتكام إلى العنف و السلاح ، كما حدث في حوادث إطلاق النار ضد منازل بعض الوزراء و الاعتداء بالضرب على آخرين ، و كذلك اختطاف محافظ جنين و إطلاق قذيفة صاروخية نحو مكتب اللواء موسى عرفات و الكثير من الحوادث التي لا مجال لذكرها .

 

نحن أمام واقع سلطة و تنظيم نجم عن فهم خاطئ لطبيعة الصراع ، و لطبيعة العلاقات بين مختلف الأطراف المنغمسة فيه ، فنتج عن ذلك خلل في البناء الفكري و طبيعة  البرنامج السياسي و مرتكزاته ، و لعل أشدّ مظاهر الخلل الاستراتيجي لدى قيادة فتح و السلطة ارتهان برنامجهم من حيث النجاح أو الفشل لإرادة العدو و حليفته الإدارة الأمريكية ، حيث ظلّت تلك القيادة تراهن على النوايا الصهيونية و الأمريكية ، التي تسعى لفرض أجندتها المناقضة لحقوق الشعب الفلسطيني و إرادته، بدلاً من الاعتماد على الشعب الفلسطيني و أمتنا العربية و الإسلامية .

 

هذا التوصيف لواقع حركة "فتح" و السلطة في حقيقته ليس وليد اللحظة ، و إن كانت التداعيات الأخيرة أظهرتها و عمّقتها، إذ طالما كانت فتح تعاني من هذه الأزمات طوال تاريخها ، لأسباب تعود إلى تركيبتها التنظيمية و الفكرية التي تم توضيحها آنفاً ، و من ثم فهي تستطيع الاستمرار رغم تناقضاتها و حالة الاستقطاب و التنافس الداخلي ، خاصة و أن الجامع الرئيس الذي يحفظ وحدتها المتمثّل في الزعيم (عرفات) و العصبية للتنظيم لا تزال قائمة ، و لكن هذه الصراعات القائمة تضعف من مصداقيتها و فعاليتها ، و تؤدّي إلى تراجع برنامجها ، و من ثمّ فهي بحاجة ملحة إلى إعادة النظر في واقعها و برنامجها و مؤسساتها قبل أن تصل الأزمة القائمة إلى حدود خطيرة لا يمكن معها الاستمرار في أداء دورها التقليدي في الساحة الفلسطينية

 

الى صفحة بدون تعليق

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع