شرف الكلمة موقف
وطني
خلال السنوات التي استلمت فيها السلطة الفلسطينية
دفّة الحكم الذاتي على الفتات دون احتلال مباشر من القوّات
-الإسرائيلية- في
الأراضي الفلسطينية، وهذه المناطق التي لا تقع تحت الاحتلال المباشر بل
تقع تحت
وصاية ورضا القوات الغاشمة.
منذ اتفاقيات أوسلو، ورغم التنازلات التي قدّمها
عرابو أوسلو من أجل رفع علم فلسطين في رام الله وعلى دائرة المقاطعة.!
وحتى الآن لم
تُقدم أيّ إنجازات وطنية. فهل يمكن أن نقبل أو نعتبر بأن كل الذي جرى
من تنازلات
يمكن أن يحقق منجزاً واحداً يفي الدم الفلسطيني، وقوافل الشهداء عبر
حقبة تاريخية
لا يستهان بها..؟!
تلك المرحلة شهدت انتكاسات وتداعيات، أدت إلى ما نحن
بصدده الآن. ورغم أن الشعب الفلسطيني يدرك خفايا تداعيات قضيته، إلا
أنه قدّم
القضية الأهم على جدول أولوياته وهي باختصار مواصلة التصدي للخنجر
الصهيوني الموجّه
مباشرة إلى قلب الوطن وإلى صلب القضية.
نشهد اليوم بالصوت والصورة إشهاراً علنيّاً لسرقة
الدم الفلسطيني، وبيع القضية برمتها بسوق نخاسة وبأبخس الأثمان. فهل
يهون على كل من
عشق هذا التراب الطاهر الممسّك بالدمّ، أن يلفظ آخر ما تبقى من كرامة
والتزام بشرف
الكلمة والموقف..!؟.
صمتٌ ثقيل يخيّم على الساحة الداخلية، وكأن هذا
الصمت يعني الموافقة والإذعان لقيادة فلسطينية جديدة ترث المال
الفلسطيني أولاً،
وتستولي على إرادته بإملاءات صهيونية مباشرة ثانياً، وهذا ما لا يقبله
أي منطق
موضوعي لمن عاصر تطورات القضية الفلسطينية على الصعيد المحلي والدولي.
ربما كانت سياسة النفس الطويل للفصائل الوطنية
الفلسطينية التي تغاضت عن انتهاك ونهش جسد الوطن حكمة ما فيما مضى، من
أجل رصّ الصف
الفلسطيني. أما الآن فالحكمة تتطلب موقفاً مواجهاً وصلباً أمام ما
تواجهه الأراضي
المحتلة من فوضى وارتباك في القرار السياسي، بسبب مركزية القيادة
الفلسطينية،
تستدعي بالضرورة أن يهبّ الجميع لتنظيف البيت الفلسطيني أولا من
العابثين بتاريخ
نضال هذا الشعب على جميع المستويات. وثانيا فإن الانتخابات وأي خطوة
خاطئة مصيرها
أن تضيف إلى سجل الكفاح الفلسطيني الناصع مسوأة جديدة، ولذلك فمن
الأجدى أن نضع في
اعتباراتنا إن هذه الانتخابات المتوقع إجراءها في خضم الفلتان الأمني،
والداعية
بالقيادة الكلاسيكية من قبل النخبة البابوية ذاتها، لن تضيف إلا مزيداً
من تنازلات
للوقوع في مستنقع خارطة الطريق، بعد الانزلاق المهين في منحدر اتفاقية
أوسلو.
الإبقاء على رمزية القيادة الوطنية قد تبعد الفصائل
عن الاقتتال فيما بينها، ولكن تمادي احتكار الأموال الفلسطينية،
والإصرار على
استمرار الفشل الذريع على مسار القضية برمتها، يجعل الوطن في مهب الريح.
بالرغم من أن سنوات ما بعد أوسلو على أرض القضية،
أثبت فشل سياسة المهادنة، وشجب العمليات الاستشهادية، والسكوت بل
والمشاركة في
اغتيال واعتقال يومي لأفراد ورموز وطنية وقيادية، بحجّة أنها لا تتفق
مع موضوعة
النضال الفلسطيني بعد بناء الدولة..! فهل تحقق بعد ذلك كله أيّ مكسب
حق.؟!
أليس من الأجدى الآن محاسبة هؤلاء الذين راهنوا على
الضمير الفلسطيني، فنزعوا منه حقوقه وجعلوه في الخلاء يعاني الجوع
والحصار.؟ هل
يعقل بعد هذا أن نواصل السكوت عن ممارسات من شأنها تهميش وتذويب
القضية. ونحن نسمع
أصواتهم التي تدعو إلى إزالة المظاهر المسلحة من الأراضي الفلسطينية
بحجة ضبط
الأمن، بينما خوفهم الأكبر أن تكون سبباً لعرقلة مسيرتهم الاستسلامية.
لا ندعو لشقّ الصف بل العكس، ولأننا ننشد اللحمة
الوطنية فشعب فلسطين بأمس الحاجة ليعلن إنطلاقة جديدة شاملة يواجه من
خان الثقة
لأغراض آنية ولتحقيق مصالح التوسع الاستيطاني العنصري.
لدى
الشعب الفلسطيني نخبة من الأحرار والمفكرين
الشرفاء، ويدركون الحقيقة التي يتوارى وراءها السلطويون بأقنعتهم
المزيفة، ليخدعوا
شعبنا المعطاء مجدداً. وكل فلسطيني بالداخل والخارج يملك القدرة والفهم
لاختيار ما
يواكب تطلعاته الصادقة عبر انتخابات نزيهة. ولو شطب فلسطينيو الشتات من
فلسطينيتهم
بإبعادهم عن ممارسة حقّهم بالانتخاب، فلا أحد يمكن أن يفرض عليهم
السكوت عن
المجاهرة بقول "لا" لمن سرقوا أحلامهم.
من لا يعرف حقيقة الصهاينة ونقضهم للعهود منذ أقدم
العصور وخيانة أحبارهم للأنبياء، والدلائل أكثر من أن تحصى!. فأي حكمة
تلك التي
تفرض على كل أسرة قدّمت شهيداً أو معوقاً جسدياً ومادياً أن يصمت،
ويقول نعم
للسياسة الاستسلامية نفسها التي اكتوينا بإخفاقاتها.؟
فقدنا أبانا "الرمز" وما بقي غير أمّ "مفترضة" تساوم
على دماء أبنائها "المفترضين" بحفنة دولارات، وتساهم في تشريدهم وزيادة
معاناتهم.
فإلى متى تبقى الكلمة الحرّة زندقة في وطني!؟ وإلى متى يستمر زمن الخرس
الجماعي!؟
ولمصلحة من..!؟
حصار.. تجويع.. اعتقالات واغتيالات تحت ستار مصلحة
القضية! أين هي تلك القضية التي أهدروا هيبتها.؟ فما عادت القدس عروس
عروبتنا، بل
جعلوها مومساً عابثة في كازينو "جونتامو" فلسطين، وبأموال سُرقت من عرق
وجهد الشعب،
ومن بكاء وخوف الأطفال، لتختزل كل التضحيات في خزينة من هجر البلاد
ونبذ القضية
وتاجر بها وتعيّش من مكاسبها وإرثها.
إن ما يعكسه واقع الإنسان الفلسطيني حاليا، منطلقا
من تاريخ دام أربعين سنة ونيف إلى لحظة ما يجري هناك في أقبية الحوارات
السرية لبيع
مستقبلنا من قبل تجار الإسمنت والمرسيدس والفنادق، يدعو إلى الخروج عن
هذا الصمت
المهين، وذلك من أجل رصّ الصفوف الفلسطينية، وتأكيد الاستقرار بعد
مرحلة فوضى عارمة
لا نريد لها أن تتواصل.
والآن نشهد بحزن وقهر مقايضة مشروعية الانتخابات من
أجل الحفاظ على عرش باطل، وعيون نامت عن الحق، لتنعم بالتنازل عن ثوابت
تاريخية
وإرادة شعب في التحرّر من براثن احتلال وسيطرة لا على فلسطين وحدها، بل
على كل
ثروات ومقدسات الأمة العربية من المحيط إلى الخليج.
لقد هبّ الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلال عبر مراحل
تاريخه،وحارب بكل الوسائل وصمد كما لم يصمد شعب على وجه الأرض، وجعل من
الحجر رمز
نضال أسطوري، وأعطى للعالم دروساً في الشموخ والتصدي من أجل حريته
وأرضه
وكرامته.فهل ينتهي ذلك كله إلى مساومة رخيصة على سلام زائف واستسلام
مذل بكل
المعايير ويصبح الاحتلال مشروعاً علنياً.؟!
سوسن البرغوثي
كاتبة وصحفية فلسطينية
sasbarghouthy@hotmail.com |