السلاح على الطاولة
البروفيسور عبد الستار قاسم
ما
كاد محمود عباس يعلن فوزه بالانتخابات حتى نشطت فصائل المقاومة
الفلسطينية بعملياتها ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه. هاجم مقاومون
فلسطينيون موقعا عسكريا جنوب قطاع غزة، وقصف آخرون مستوطنات في الأرض
المحتلة/48، واقتحم نفر معسكرا محصنا ونالوا بقوة من الجنود. أعلنت
فصائل فلسطينية مسؤوليتها عن هذه النشاطات ببيانات تفصيلية وبتوثيق
تلفازي. كالعادة، هناك من ابتهج وعبر عن ثقته بالمقاومة الفلسطينية،
وهناك من زمجر وعربد وهدد، وهناك من أدان العنف بكافة أشكاله وعلى
مختلف منابعه ومصادره.
لم
يكن العمل الفدائي الفلسطيني هذا طارئا أو غير متوقع، وإنما عبارة عن
امتداد للمقاومة الفلسطينية المستمرة منذ عقود. لكن هناك من فسره على
أنه طريقة المقاومة الفلسطينية في الترحيب بمحمود عباس الذي عبر مرارا
عن موقفه المعارض لما يسميه عسكرة الانتفاضة. هذا ليس مستبعدا بخاصة أن
المقاومة الفلسطينية قد هدأت بعض الشيء في الأشهر الأخيرة وأثناء
الإعداد للانتخابات الفلسطينية. الأعمال الأخيرة لا تخلو من الرسائل
لمختلف الأطراف المعنية بطاولة المفاوضات ووقف المقاومة، ولا تخلو أيضا
من التأكيد على أن نهج المقاومة مستمر على الرغم من وعود عديدة بنعم
سيحصل عليها الشعب الفلسطيني إذا انتخب شخصا معينا بعينه.
سواء كانت النشاطات الفدائية الفلسطينية تحمل رسائل أو لا تحمل، تبقى
هناك حقيقة قائمة على الساحة الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها وهي أن
جزءا كبيرا من الشعب يؤمن بأن المقاومة حق يجب التمسك به وممارسته، وأن
هناك فصائل فلسطينية ناشطة تحمل هذا الحق. من هذه الفصائل من يؤيد
المفاوضات والعملية السلمية لكن دون إلقاء السلاح، وهناك من لا يؤمن
إلا بفوهة البندقية كوسيلة وحيدة لاسترداد الحقوق الفلسطينية. بعض
قطاعات المقاومة تؤمن بحل الدولتين ولديها الاستعداد لدعم المفاوض
الفلسطيني، وبعضها يؤمن بضرورة تحرير كامل التراب الفلسطيني ولديه
الاستعداد أن يعطي المفاوض الفلسطيني فرصة المحاولة.
ترى
المقاومة الفلسطينية أن القوة هي أساس استرجاع الحقوق، وأن السلاح يجب
أن يبقى حاضرا وعلى الطاولة في مواجهة العدو. وإذا كان للمفاوضات أن
تأتي بشيء فلا بد من وجود عضلات قوية تسندها. هذه فلسفة لا تختلف عن
جوهر الفلسفة السياسية التي ترى في القوة أساسا جوهريا في تحديد
العلاقات بين الدول، ولا عن السياسة الأمريكية والإسرائيلية في التعامل
مع دول العالم ومجتمعاته. أكدت أمريكا مرارا أن السلام ممكن في منطقة
الشرق الأوسط إذا كانت إسرائيل قوية، وإسرائيل تؤكد يوميا سياساتها
التسلحية المتنوعة لتبقى متفوقة على العرب منفردين ومجتمعين.
إسرائيل وأمريكا لا تريان مجالا للتفاهم مع العرب والفلسطينيين إلا
مجال القوة الذي يقنع الآخرين بأن إمكانية التحدي غير واردة والمحاولة
غير مجدية. التركيز على التسليح واستجماع مختلف عناصر القوة السياسية
والعسكرية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها يعبر فقط عن ذهنية
واضحة وهي السعي نحو تحقيق انتصار نظيف (أي بدون قتال) على العرب. من
شأن القوة المتنامية أن تصنع توجها نفسيا لدى قادة الخصم مما يدفعه إلى
الاستسلام متسلحين بتبرير قوي أمام مواطنيهم وهو أن المواجهة العسكرية
ستؤدي حتما إلى هزيمة نكراء تتميز بخسائر مرعبة في النفوس والممتلكات،
وستقود إلى أحزان وآلام كبيرة، وإلى شروط استسلامية أشد قسوة وتجبرا
وهيمنة.
لقد
أوصل الأمريكيون والإسرائيليون عددا من القادة العرب والفلسطينيين إلى
هذا الاستنتاج الخنوعي، وأوصلوا معهم ملايين العرب. ببساطة، يردد
مسؤولون ما رددته الدول الغربية وإسرائيل منذ عشرات السنين وهو أن
المقاومة تضر بالقائمين عليها وبالشعوب التي يحاربون من أجلها. لقد دفع
العرب جميعا ثمنا باهظا لتعنتهم وتمسكهم بالحقوق من خلال البنادق
وأصبحت أحوالهم أكثر سوءا من الوضع الذي كان من الممكن أن ينجم عن
قبولهم بالواقع في وقت مبكر. اضطرت دول وشعوب أن تقبل بالواقع بعد أن
لحقت بها الهزائم والخسائر، وأُجبر العرب على التفكير السليم بعد تجارب
مريرة. وهذا ما يدفع العديد من منظري السياسة الغربيين إلى اتهام العرب
بالغباء: إنهم لا يتعلمون إلا بالتجربة، وإن أرادوا تحقيق شيء لا
يواصلون الجهود بطريقة سليمة. يصفوننا بالانفعالية وبالنّفس القصير.
تدرك فصائل المقاومة الفلسطينية هذه المعادلة تماما، وترى أنها من
المهم أن تستمر بالمقاومة وإنما بعيون تتطلع نحو تحسين وتطوير القدرات
ونحو صياغة تحالفات تشكل ظهرا قويا ساندا. هذا ما أدركه حزب الله
واستطاع أن يشذ عن قواعد اللعبة العسكرية-السياسية في المنطقة، وأن
يحقق ما عجزت دول عربية عن تحقيقه. استطاع الحزب بقدراته التنظيمية
والإدارية الحديثة والمتطورة أن يتفوق على إسرائيل، ليس بالضرورة
عسكريا وإنما أمنيا، وأن يشكل رادعا صلبا لمغامراتها العسكرية. يرى
فلسطينيون وفصائل فلسطينية في حزب الله نموذجا حيا وناجحا. لقد خرجت
إسرائيل من جنوب لبنان بدون مفاوضات ومن الممكن أن تخرج كذلك من
فلسطين.
تقول فصائل فلسطينية بتأييد فلسطينيين كثر بأن شارون قرر الخروج من غزة
بفعل المقاومة، ولولا السلاح الفلسطيني لعمل بإصرار على بناء المزيد من
المستوطنات في غزة وعلى جلب المزيد من المستوطنين. سنوات من المفاوضات
لم تؤد إلى تفكيك مستوطنة واحدة، بل على العكس ارتفع عدد المستوطنات
والمستوطنين، واشتدت الهجمة على الأراضي، الخ. المعنى أن إسرائيل ترضخ
كغيرها من الدول إذا وقف في وجهها من يكلفها أمنيا ويقض مضاجع
مواطنيها، ويثبت أنه ندّ قوي لا يتراجع أمام الخسائر التي تحدثها
الهجمات العسكرية.
وعليه فإن الفصائل الفلسطينية لن تدع محمود عباس يذهب إلى طاولة
المفاوضات بالطريقة التي تريدها إسرائيل. إذا كانت البندقية لا تعجبه
كوسيلة لنيل حقوق فلسطينية، فإنه لا مفر سيجدها أمامه على الطاولة إذا
قررت إسرائيل أن تقبل به شريكا. قد لا يروق له المنظر، لكن إسرائيل
تعرف القيمة التهديدية لهذا السلاح ومحدودية الخيارات أمامها.
|